التسوية بين الأولاد في العطية
25-04-2023
التسوية بين الأولاد في العطية
ثم العطية كأنها بين المتقاربين في الحال، أي: إذا سلمت لأخيك شيئاً أو لجارك فإنها تسمى عطية، وكذلك هبتك لمن تحتك إذا لم تقصد الأجر تسمى عطية، ومن ذلك عطية الوالد لأولاده تُسمى عطية، فعطيتك لأخيك عطية، ولزميلك وصديقك عطية، ولولدك عطية، وأما للفقير الذي هو أنزل منك فإنها تسمى صدقة، وأما للأمير الذي فوقك فهذه تسمى هدية وهبة، والغالب أنك تأمل أكثر من ثمنها.
ذكر المصنف رحمه الله بعد ذلك عطية الوالد لأولاده، وأنه إذا أعطى أولاده عطية بدون سبب فإنه يلزمه التسوية والعدل، وقد جاء في ذلك حديث النعمان بن بشير، وهو أن والده بشير بن سعد أعطاه ونحله غلاماً، فقالت أمه: (أحب أن تُشهد على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء ليشهده، فقال: أكُلَّ ولدك نحلته مثله، قال: لا، فقال: فأرجعه) ، وفي رواية أنه قال: (أتحب أن يكونوا لك في البر سواء؟ قال: نعم، قال: فلا إذن، وقال: اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم) ، وفي رواية أنه حينما قال: (أشهدك على هذا، قال: لا أشهد على جور) ، وكل هذه الألفاظ في الصحيحين أو أحدهما.
وقوله: (اعدلوا بين أولادكم) العدل هو: التسوية، واختلف في مفهوم هذه الكلمة، فبعضهم قال: يسوي بين الذكر والأنثى؛ لأن قوله: (اعدلوا بين أولادكم) معناها: سووا بينهم، فيعطي الذكر كالأنثى، وقيل: إن العدل هو أن يقسم لهم على ما في الميراث، للذكر سهمان وللأنثى سهم؛ وذلك لأن كتاب الله تعالى هكذا فرض لهم، ولاشك أن القرآن هو أعدل ما يقال: إنه عدل، وهذا هو الصحيح، وهو أنه يسوي بينهم بقدر ميراثهم {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11] .
وإذا قدِّر أنه فضل بعضهم وزاده، ففي هذه الحال يلزمه التسوية، فيسترد ما أعطى ذلك الذي أعطى، لقصة النعمان فإنه رد تلك الهبة، فعُلم بذلك أنها لا تلزم ولو قبضها ذلك الابن، وأنه يلزمه التسوية، فإن قدر على أن يعطي الآخرين مثل هذا الذي أعطاه فإنه يلزمه أحد أمرين: إما أن يُعطي الآخرين حتى يستووا أو يسترد ما أخذه من ذلك الذي فضله.
حكم موت الأب قبل أن يسوي بين أولاده في العطية
لو قدِّر أن الأب مات قبل أن يسوي بين أولاده، ففي هذه الحال هل تثبت؟ ذكروا أنها تثبت، وأن الورثة ليس لهم مطالبة أخيهم، وهذا هو الذي عليه الفتوى.
وذهب آخرون إلى أن للورثة مطالبة أخيهم فيقولون: أبونا فضلك وأعطاك شيئاً زائداً علينا بغير سبب، فنحن لا نرضى، ويلزمك أن تأتي بما أعطاك وتضعه في التركة، ونقتسمه بالسوية، وهذا قول لبعض العلماء، وله وجاهته حتى لا يلحق الأب إثم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سماه جوراً فقال: (لا أشهد على جور) ، فإذا أرادوا إبراء ذمة أبيهم فإنه يلزمهم التسوية، فيرد الذي فضل على إخوته ما كان أخذه.
حالة جواز التفضيل بين الأولاد
في هذه المسألة شيء من التفصيل، فنقول: إنه قد يجوز التفضيل لبعض الأسباب أو بعض المناسبات، فمن ذلك تزويج من بلغ منهم؛ لأن التزويج كالنفقة، فإذا بلغ واحد وزوجه، ثم بلغ الثاني وزوجه، فلا يلزمه أن يعطي الأصاغر مثل ذلك الكبير الذي زوجه، ولو كانت أمهم مثلاً مطلقة وهم تحت كفالتها فلا تقول: أنت أعطيت ولدك هذا خمسين ألفاً في زواجه، فأعط أولادي كل واحد منهم خمسين ألفاً، وعليه أن يقول: من بلغ منهم فإني أزوجه، وأما قبل البلوغ فلا يلزمني.
فلو مات قبل أن يزوّج بعضهم فليس لهم أن يأخذوا من التركة مقابل زواجهم، بل يقتسمون التركة ويتزوجون إن شاءوا من أنصبائهم.
ومن ذلك في هذه الأزمنة إذا بلغ أحدهم من الذكور مثلاً ثماني عشرة سنة احتاج إلى سيارة يتنقل عليها، وقد يكون له إخوة صغار، فيشتري له أبوه سيارة للدراسة وللتنقل، فهل يلزمه أن يُعطي الصغار مثل قيمة هذه السيارة، وتقول أُمهم: أعطيت ولدك الكبير سيارة بخمسين ألفاً مثلاً، فأولادي هؤلاء عليك أن تعطيهم قيمتها إذا بلغوا ليشتروا مثلها؛ لأنك إذا لم تفعل فقد فضلت بعضهم؟ لا يلزمه ذلك، وما ذاك إلا أن هذه السيارة للحاجة، فمتى بلغ الصغير اشترى له مثلها، وقبل البلوغ ليس بحاجة إليها فهي كالزواج.
وهكذا مثلاً إذا كان له بنات، واشترى لكل واحدة منهن حلياً بعشرة آلاف، فهل يعطي الذكور مثلها؟ لا يلزمه؛ لأن هذا من تمام الزينة، فلا يلزمه أن يعطي الذكور مثل ذلك.
وعندنا مثلاً الكسوة تتفاوت، فهو يشتري كسوة أولاده الذكور، فالذكر قد يكفيه كل شهرين أو كل أربعة أشهر خمسون ريالاً كسوة، وأما الأنثى فإن كسوتها قد تكون بمائتين، فلا يلزمه إذا اشترى كسوة أنثى بمائتين أن يُعطي الذكر تمام المائتين؛ لأن هذه كسوتها، وهذه كسوته، وقد أعطى كلاً منهم كسوته وسد حاجته، فهذا التفاوت لا يلزم التسوية فيه.
وبعضهم إذا زوج بناته قد يجهز بعضهن مثلاً بأربعين ألفاً زيادة على المهر، وبعضهن لا يجهزها كذلك، ويكتفي بمهرها، فهل يلزمه لهذه التي ما أعطاها شيئاً أن يُعطيها مثل ما جهز به أختها؟ لا يلزمه ذلك؛ لأن هذا التجهيز تستحقه تلك، فيشتري لها كسوة ويشتري لها حلياً أو أواني، أو ما أشبه ذلك، فإذا كان الصداق الذي دفع لها قليلاً زاده من عنده، فلا يلزمه أن يُعطي أخواتها مثل هذه الزيادة، سواء قبل الزواج أو وقت الزواج.
كذلك ذكروا أنه يجوز التفضيل أيضاً لأسباب؛ منها: إذا كان أحدهم معوقاً فله أن يزيده وأن يتبرع له، كالمريض أو الضرير أو ما أشبه ذلك؛ لأنه بحاجة إلى الزيادة.
وكذلك لو أن أحدهم تفرغ لطلب العلم، والآخر اشتغل بطلب الدنيا، فهذا الذي اشتغل بطلب الدنيا حصل على مال واشترى له سكناً وأثث سكنه، وطالب العلم منشغل بالطلب وبالتعلم فيستحق أن يساعده في السكن، ويستحق أيضاً أن يساعده في الزواج أو في تأثيث السكن، ويقول لإخوته: أنتم استغنيتم، وأنا مطالب بمن لم يستغن، فكما أنكم استغنيتم، وانفرد كل واحد منكم في مسكن، وصار ينفق على نفسه، وأنا أنفق على إخوتكم الأطفال، ولا يلزمني أن أُعطيكم مثلهم؛ فكذلك أيضاً لا يلزمني أن أعطيكم مثل هذا الذي تفرغ للتعلم وانقطع للفقه في الدين، فليس يلزمه أن يُعطي إخوته مثل ما أعطاه.
وقد يقول: اشتغل بطلب العلم وأنا أشتري لك سيارة، وأنا أزوجك، وأنا أُسكنك، وأنا أُنفق عليك، فيقول: أنا لا أريد التعلم ولكني أشتغل لنفسي، فيقول: إذا اشتغلت لنفسك واستغنيت فلا يلزمني لك أكثر من حاجتك، فإذا أغنيت نفسك فلا نعطيك شيئاً، بل نعطي أخاك الذي تفرغ.
كذلك أيضاً يقع أن بعض الأولاد ينقطع على والده والآخر ينفصل، فهذا الذي انقطع عند والده يستحق أن يكافئه، كثير منهم يقول: أنا أشتغل مع والدي في تجارته، أشتغل معه في سقي حرثه، أساعده في حرفته أياً كانت، كما إذا كان خياطاً أو قصاراً أو خرازاً أو غسالاً أو نحو ذلك، فأحد أولاده انفرد بصنعة، والآخر اشتغل مع والده؛ فهذا الذي اشتغل مع والده يستحق أن يعطيه مقابل اشتغاله سكناً ويزوجه ويعطيه سيارة.
ثم أيضاً قد يشتغل بعضهم مع أبيه أربعين سنة في تجارته، والأخ الثاني موظف مستقل بوظيفته، فيجوز للأب أن يُشرك الولد ويقول: هذا الولد الذي اشتغل معي عشرين أو ثلاثين أو أربعين عاماً، أجعله شريكاً، فأجعل تجارتي بيني وبينه نصفين.
أو يقول: إنه اشتغل معي في سقي الحرث، وفي إصلاح المضخات، وفي حفر الآبار، وفي الحرث والسقي والزرع والغرس وإصلاح المجاري للماء وما أشبه ذلك، فنقول: لاشك أنه تعب معك عشر سنين أو عشرين سنة، فإما أن تجعل له مرتباً كما لو كان أجنبياً، وإما أن تُشركه في هذا الحرث.
وهكذا في البوادي بعض أولادهم يتعلقون بالوظائف، وبعضهم يبقى عند ماشية أبيه يرعى ويسقي، ويحفظ إبلاً وغنماً، فينقطع على حفظ ماشية أبيه، فهل يساوى بإخوته الآخرين عند الميراث؟ إخوته توظفوا، وكل منهم يجمع مرتبه، ويشتري لنفسه مسكناً وأثاثاً، وأصبح عنده رأس مال، وعنده ذخيرة، وهذا انشغل مع أبيه في رعي غنمه وإبله، وفي سقيها وحفظها وإصلاحها ومراعاتها، وخدمة أبويه؛ فيستحق والحال هذه أن يجعل له نصيباً من هذه الأغنام أو الإبل، ويقول لإخوته: أنتم استغنيتم عن أبيكم، وهذا خدم أباه وقام بخدمته وحفظ حلاله وحفظ أمواله، ففي هذه الحالة يجوز التفضيل.