مقدمة الدعاء آداب وأحكام
16-02-2023
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام علىٰ المبعوث رحمة للعالمين، نبيّنا محمد، وعلىٰ آله وصحبه والتابعين
أما بعد
فإن المؤمن دائمُ اللجوء إلىٰ الله ــ تبارك وتعالىٰ ــ في عسره ويسره، في غناه وفقره، وذلك أنه يستشعر دائماً أنه لا غنىٰ له عن الله عز وجل طرفةَ عينٍ، هو دائم الحاجة إلىٰ رب العزة تبارك وتعالىٰ
وإن من أعظم الأمور التي يلجأ بها العبد إلىٰ الله سبحانه وتعالى، ويكثر فيها من ذكره سبحانه وتعالى: الدعاء
قال بعض الصالحين: ما وجدت للمؤمن مثلاً إلا رجلاً في البحر علىٰ خشبة، فهو يدعو يا رب يا رب، لعل الله عز وجل أن ينجيه
والله سبحانه وتعالى مع كمال غناه عن عباده؛ فإنه يدعوهم إلىٰ دعائه، فيقول ــ كما في الحديث القدسي ــ: «يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم»([1])
أوليس قد قال الذي أوتي جوامع الكلم ﷺ: «الدعاء هو العبادة»([2]) أي: إن أهمَّ شيءٍ في العبادة، وأعظمَ العبادات التي يتقربُ بها العبد إلىٰ الله تبارك وتعالىٰ: الدعاء
قال الله عز وجل: ﴿ قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ﴾ [الفرقان: 77]
قال الإمام ابن القيم ــ رحمه الله تبارك وتعالىٰ ــ: «فإنه من أقوىٰ الأسباب في دفع المكروه، وحصول المطلوب»، وقال: «والدعاء من أنفع الأدوية، وهو عدو البلاء، يدافعه ويعالجه، ويمنع نزوله، ويرفعه، أو يخففه إذا نزل»([3])
وقد أثنىٰ الله ــ تبارك وتعالىٰ ــ علىٰ عباده الصالحين الذين يلجؤون إليه بالدعاء، فقال: ﴿ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي ٱلْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا﴾ [الأنبياء: 90]
وقال سبحانه وتعالى: ﴿ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ ٱلْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا﴾ [السجدة: 16]
وما دعا العبد ربَّه تبارك وتعالىٰ إلا ووجد الله سميعاً قريباً مجيباً ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ ٱلْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ ٱلسُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ ٱلْأَرْضِ أَإِلـٰهٌ مَعَ ٱللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ﴾ ؟ [النمل: 62] إنه الله سبحانه وتعالى
إن الدعاء من أعظم الأسباب التي بها تطمئن القلوب، وأعظم الأسباب التي يظهر العبد بها فقره وذله وحاجته إلىٰ الله تبارك وتعالىٰ، ولكن كما قيل: الدعاء كالسلاح، بل هو السلاح، والسلاح لا يقتل بحده فقط بل لا بد من أن ينظر إلىٰ حامله.
إنَّ السِّلاحَ جَمِيعُ النَّاسِ تَحْمِلُهُ وَليْسَ كُلُّ ذَوَاتِ المخْلَبِ السَّبُعُ
والدعاء كذلك كثير من الناس يحملونه ويتعاطونه في حياتهم، ولكننا في الوقت ذاته نجد شخصين اثنين: هٰذا يدعو، وهٰذا يدعو، يدعوان بالكلام ذاته. ألسنا ندعو بجوامع الكلم الذي كان به يدعو رسولنا ﷺ؟
فوالله إن كثيراً من الناس من يأتي بكلام شبيه بكلام النبي، بل هو كلام النبي ﷺ، ولكن شتان شتان
إنه ينبغي علينا أن ننظر إلىٰ حقيقة الدعاء، وحقيقة الداعي، فلا يجوز لنا أبداً أن نهمل حامل هٰذا السلاح
لقد تنبه النبي ﷺ ــ وهو المعصوم ــ ونبَّه أصحابه، ونبَّه أصحابُه مَنْ جاء بعدَهم، ونبَّه مَنْ جاء بعدهم مَنْ جاء بعدهم، وهكذا، رسالةٌ تتلقفها الأجيال، خلفٌ عن سلفٍ، أوْصَوْهم أن إذا دعوا الله تبارك وتعالىٰ أن يتنبهوا إلىٰ السلاح وإلىٰ حامله، وأن يتحرزوا كل التحرز من موانع إجابة الدعاء، وأن يعرفوا قدر الدعاء ومكانته، وأن لا يتناسوا أبداً قول الله تبارك وتعالىٰ: ﴿ قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ﴾ [الفرقان: 77]
وليستحضر الداعي وقوفه بين يدي الله ــ تبارك وتعالىٰ ــ، وليستشعر قرب الله تعالىٰ منه، فهو القائل: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ [البقرة]. فالله قريب بإجابة الدعاء، قريب بعلمه، قريب من عباده فيستجيب لهم، ويتفضل عليهم، ولكن لا بد للعبد من الإيمان بالله، والاستجابة لأوامره، والانتهاء عن نواهيه وزواجره، فإن ذلك من أسباب الإجابة والقبول
وقد وصف الله سبحانه وتعالى الداعي بوصف العبودية؛ لأنه أشرف الأوصاف، وأفضل النعوت، كما وصف الله تعالىٰ نبيه فقال: ﴿ سُبْحَانَ ٱلَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ إِلَى ٱلْمَسْجِدِ ٱلْأَقْصَى﴾ [الإسراء: 1]، وقال: ﴿وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ ٱللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا﴾ [الجن]
([1]) أخرجه مسلم في «صحيحه» (4674) من حديث أبي ذر رضي الله عنه
([2]) أخرجه أحمد في «المسند» (17660)، وأبو داود في «السنن» (1264)، والترمذي في «الجامع» (2895)، وابن ماجه في «السنن» (3818) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه، وصححه الألباني رحمه الله