حكم التوكيل في العبادات

فالحاصل أن اليمين لا تدخلها النيابة، ولا يحلف أحد عن أحد.

يقول: (وفي كل حق لله تدخله النيابة) أي: من العبادات ما تدخله النيابة، فيجوز التوكيل فيه، فتوكله أن يفرق كفارة النذر أو كفارة اليمين، وتقول: يا فلان! عليّ كفارة يمين إطعام عشرة مساكين، فخذ هذه الدراهم لتشتري طعاماً وتطعمهم، فيجوز هذا، وكذلك مثلاً تعطيه زكاة مالك ليفرقها، فتقول: وكلتك أن تفرق هذه الزكاة على المساكين الذين تعرفهم، وتعرف استحقاقهم، فهذه من العبادات المالية التي يصح التوكيل فيها.

ومن العبادات التي يصح التوكيل فيها الحج والعمرة خاصة، فقد وردت الإنابة فيهما، فيجوز أن يوكل العاجز ويقول: يا فلان خذ هذه النفقة وحج عني أو حج عن أبي الميت، أو وكلتك أن تحج عني أو عن أبي، أو تعتمر وتجعل عمرتك عن أبي أو عن أخي، وتعطيه نفقته.

فهذه العبادات يصح التوكيل فيها، وأما بقية العبادات فلا يصح أن يوكل فيها.

ذكر لي بعض الإخوان الغيورين أنه مر على بعض الشباب المتهاونين فقال لهم: اذهبوا إلى المسجد وأدوا الصلاة مع الجماعة، فقالوا: أنت بالنيابة، يعني: كأنهم يقولون: صل عنا، وهذا من الاستهزاء، ولا شك أن الصلاة عبادة بدنية لا يصح التوكيل فيها، ولا يصح أن يصلي أحد عن أحد؛ لأنها عبادة تتعلق بالبدن، ولا تسقط عن الإنسان إلا إذا أداها بنفسه.

وكذلك الصيام عبادة بدنية، وقد رأيت إنساناً كبيراً لعله مسافر، شرب من الماء والناس ينظرون، فأنكر عليه بعضهم وقال: هذا ما صام! فقال: أنت تصوم عني، ويظهر أنه أراد بذلك الاعتذار، ولو قال: إنني مسافر كان أقرب إلى عذره، مع أن المسافر إذا كان في البلد لا يحل له أن يُظهر الأكل أمام الناس، فعليه أن يمسك ولا يأكل ولا يشرب إلا في خفية؛ لأن الناس يستنكرون أكله أو شربه في رمضان علناً، وعلى كل حال فالعبادات البدنية لا يجوز التوكل فيها.

الوكالة عقد جائز ومثلها الشركة والمساقاة والمزارعة

وحكم الوكالة أنها عقد جائز، فيجوز للوكيل أن يخلع وكالته، ويقول: وكلني فلان على بيع سلعته، واشهدوا أني لا أريد هذه الوكالة، وكلني على قبض دينه مثلاً أو على قبض مكافأة، واشهدوا أني لا أقبضها، فليوكل غيري، فيجوز للوكيل أن يعزل نفسه متى أراد، وكذلك الموكل يجوز أن يعزل وكيله.

وقد تكون الوكالة محددة، ففي بعض الأعمال قد يقول الموكل: يا فلان! أنت وكيلٌ على سقي هذه الأغنام أو سقي هذه الأشجار حتى يأتي زيد من سفره، فإذا جاء بطل توكيلك، أو أنت وكيلٌ على أولادي تنفق عليهم من أموالهم إلى أن يبلغ الكبير منهم الحلم ويكون رشيداً فتنفسخ وكالتك، فهذه تكون وكالةٌ مؤقتة، فإذا قدم زيد انفسخت وصار هو الوكيل، أو إذا بلغ فلان ورشد فهو الوكيل وتنفسخ وكالته، وقد يوكل الموصي أخاه ويقول: حتى يبلغ ابني ويرشد.

فالوكالة عقد جائز، فيصح للوكيل أن يخلع نفسه، ويصح أن يخلعه الموكل، ثم لو تصرف قبل أن يبلغه الخلع فإن تصرفه نافذ، فلو وكله ليطلق امرأته، ولما وكله ذهب الوكيل إلى المحكمة وقال: هذه وكالة لي من فلان بطلاق امرأته.

ولكن ندم الموكل فقال: اشهدوا أني خلعته عن هذه الوكالة، ولم يعلم الوكيل بالخلع حتى ذهب إلى القاضي، وأصدر القاضي صكاً بالطلاق قبل أن يبلغه الخبر بأنه مخلوع، ففي هذه الحال لا شك أنه ينفذ الطلاق؛ لأنه ما بلغه خبر العزل إلا بعدما كتب الطلاق.

وهكذا يقال في البيع، لو قال مثلاً: وكلتك في بيع بيتي مثلاً بخمسمائة.

ثم ندم وقال: من لقي فلاناً فليخبره أني قد عزلته، ولم يلقه أحد ألا بعد البيع وقبض الثمن وكتابة الوثيقة، فإنه ينفذ البيع؛ لأنه تصرف وهو مفوض وموكل.

وشركة العنان وشركة المضاربة كلاهما عقد جائز، يعني: يتمكن أحد الشريكين أن يحل الشركة وأن يطلب القسمة، وكذلك المساقاة والمزارعة، والمساقاة هي أن يقول: اسق هذا النخل سنة بنصف الثمر أو بربعه.

فيصح أن يبطل العقد قبل أن يثمر النخل، ويعطيه أجرة مثله.

والمزارعة أن يقول: ازرع هذه الأرض ولك نصف الزرع، فيصح أن يخلعه ثم يعطيه أجرة ما أنفقه، وكذلك الوديعة؛ إذا أودع عندك إنسان مثلاً ألف ريال فإنه يصح أن يأخذها بعد ساعة أو بعد يوم.

وكذلك الجعالة، فإذا قال: من بنى هذا الجدار فله مائةٌ، فله أن يقول: رجعت عن ذلك؛ وذلك لأنه لم يتفق مع واحد، وهذه كلها عقود جائزة، ولكل واحد فسخها.

 لا يصح للوكيل أن يبيع على نفسه أو أقاربه أو يشتري لهم

قال المصنف رحمه الله: (ولا يصح بلا إذن بيع وكيل لنفسه، ولا شراؤه منها لموكله، وولده ووالده ومكاتبه كنفسه) صورة ذلك إذا قال: وكلتك أن تبيع هذه الدار أو هذه السيارة أو هذا الكيس أو هذه الشاة.

ومعنى ذلك: أنك تدخل بها السوق، وتنظر من يشتري هذه الشاة أو هذا البعير أو هذا الكيس، فهل تقول: أنا أولى به وسأشتريه لنفسي؟ لا يجوز؛ لأنك متهم بالتساهل، فقد يقال: اشتراه لنفسه برخص، ولو أنه دخل به السوق أو صبر عليه لباعه بأكثر.

وهكذا إذا بعته على ولدك أو على والدك أو على مكاتبك؛ لأن المكاتب الذي اشترى نفسه من سيده بثمن مؤجل، لا يزال عبداً ما بقي عليه درهم، فلا يصح للوكيل أن يشتري الشاة لنفسه، بل يبيعها لغيره، وإذا وكلك أن تبيع هذه السيارة فلا تبعها على نفسك أو ما أشبه ذلك مخافة التهمة.

وهكذا الشراء لا يجوز أيضاً، فإذا قال: وكلتك أن تشتري لي كيس بر أو أرز فلا تقل: عندي أكياس وسأشتري له من نفسي إلا إذا كان هناك دلالة تدل على الإذن أو قرينة بأن قال مثلاً: بعني من نفسك أو بصفتك تاجراً فبعني كيساً أو ثوباً أو شاة من غنمك.

فمثل هذا يعتبر قرينة، فأما إذا سكت وقال: اشتر لي كيس تمر أو سيارة صفتها كذا وكذا، أو اشتر لي ثوباً أو شاةً، فلا تشتر ذلك من نفسك ولا من أبيك ولا من أبنك ولا من مكاتبك؛ لأنك قد تزيد في الثمن، فقد يكون الكيس مثلاً بمائة، فتحسبه عليه بمائة وخمسة، أو نحو ذلك، فيدخله الشك.

فالحاصل أن الوكيل لا يشتري من نفسه، ولا يبيع على نفسه، وولده مثله، وأبوه مثله، ومكاتبه مثله.

يقول هنا: (وإن باع بدون ثمن مثلٍ أو اشترى بأكثر منه صح وضمن زيادةً أو نقصاً) صورة ذلك: إذا قال مثلاً: بع هذه الشاة في السوق، فتساهلت وبعتها مثلاً بمائتين، ومثلها يساوي مائتين وخمسين لو صبرت، لكنك بعتها في أدنى السوق، أو بعتها لأول من سامها، فالبيع صحيح، ولكن تضمن النقص؛ لأنها تساوي مائتين وخمسين وأنت بعتها بمائتين.

وكذلك إذا وكلك أن تشتري له شاة، والغنم التي تماثلها تساوي مائتين، ولكنك اشتريت من أدناهم وبدون مراجعة بمائتين وخمسين، فهذا دليل على أنك تريد الحظ لذلك البائع، أو أنك متساهل، فعليك أن تدفع هذه الزيادة، فيقول لك: الناس يشترون بمائتين، فأنا لا أدفع إلا مائتين، والخمسون الزائدة تكون عليك؛ لأنك تساهلت.

وهذا يفيد أن الوكيل عليه أن يجتهد في النصح لموكله سواءً كان بأجرة أو بدون أجرة، ومعلوم أنه إذا قال لك: بع الشاة ولك اثنين في المائة من ثمنها، فإنك سوف تحرص على أن تزيد في الثمن حتى تبيعها بأربعمائة مثلاً، فتكون أجرتك ثمانية مثلاً، وإذا بعتها بثلاثمائة مثلاً فلا يحصل لك إلا ستة.

وهكذا إذا قال: وكلتك أن تشتري لي شاة، ولك أجرةٌ عشرة ريال أو نحو ذلك، فإنك مأمور أن تنصح له، وأن تجتهد في شراء الرخيص، وألا تشتري بثمن مرتفع حتى لا تضره؛ لأنك وكيل وأمين.

فالحاصل أن الوكيل إذا تساهل واشترى غالياً صح الشراء وضمن الزيادة، وإن تساهل وباع رخيصاً صح البيع وضمن النقص.