ولما ارتفع الضحىٰ، دعا النبي ﷺ فاطمة رضي الله عنها، فسارّها بشيء فبكت، ثم دعاها فسارّها بشيء فضحكت.

قالت عائشة: فسألنا عن ذلك فيما بعد، فقالت فاطمة: سارّني النبي ﷺ أنه يُقبض في وجعه الذي تُوفي فيه فبكيت، ثم سارّني فأخبرني أني أول أهله يتبعه فضحكت.

وفي بعض الروايات عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما رأيت أحداً أشبه سَمْتاً وهَدَياً ودلاً([1]) برسول الله ﷺ من فاطمة بقيامها وقعودها، وكانت إذا دخلت علىٰ النبي ﷺ قام إليها وقبّـلَها وأجلسها في مجلسه، وكان إذا دخل عليها فعلت ذلك، فلما مرض ﷺ دخلت عليه فأكبّت عليه تقبله، ثم بكت فاطمة وضحكت لمّا سارّها النبي ﷺ، فقالت عائشة: ما رأيت اليوم فرَحاً أقرب من حزن؟ فسألتها عن ذلك. قالت فاطمة: ما كنت لأفشي سِرَّ رسول الله ﷺ.

فلما توفي النبي ﷺ، سألتها عائشة: فقالت فاطمة: أسَرّ إليّ أنَّ جبريل كان يعارضني القرآن كل سنة مرة وأنه عارضني العام([2]) مرتين، ولا أُراه إلا حضر أجلي، وأنك أول أهل بيتي لحوقاً بي. قالت فاطمة: فبكيت. فقال: «أما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة؟». قالت فاطمة: فضحكت([3]).

ولما رأت فاطمة رضي الله عنها الكرب الشديد علىٰ رسول الله ﷺ بكت وقالت: واكرب أباه. قال لها: «ليس علىٰ أبيك كربٌ بعد اليوم»([4])، ثم اشتد الوجع بالنبي ﷺ، وظهر أثر السم الذي أكله في خيبر في أول السنة السابعة. حتىٰ كان يقول لعائشة: «ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان انقطاع أبهري([5]) من ذلك السم»([6]).

وأوصىٰ ﷺ الناس وقال: «الصلاة الصلاة، وما ملكت أيمانكم»([7]).

وبدأ الاحتضار برسول الله ﷺ، وأسندته عائشة رضي الله عنها إليها، وكانت تقول: إن من نعم الله عليّ أن رسول الله ﷺ توفي في بيتي وفي يومي وبين سَحري ونَحري، وأن الله جمع بين ريقي وريقه عند موته.

قالت: ودخل عبد الرحمن بن أبي بكر وبيده سواك، وأنا مسندته علىٰ صدري بين السَحْر والنَحْر([8])، فرأيته ينظر إليه وإلىٰ سواكه وعرفت أنه يحب السواك، قلت: آخذه لك.

فأشار برأسه أن نعم، فتناولته فلينته وقضمته وطيبته وأعطيته رسول الله ﷺ، فاستن بالسواك كأحسن ما كان مستناً ﷺ، وبين يديه ركوة فيها ماء فجعل يدخل يديه ويمسح بهما علىٰ وجهه ويقول: «لا إله إلا الله إن للموت سكرات»([9]).

وما عدا أن فرغ من السواك حتىٰ رفع إصبعه وشَخَص بصره نحو السماء وتحركت شفتاه، فأصغيت إليه فإذا هو يقول: «مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، اللَّهم اغفر لي وارحمني وألحقني بالرفيق الأعلىٰ، اللَّهم الرفيق الأعلىٰ»([10]). كرر الكلمة ثلاثاً، ومالت يده ولحق بالرفيق الأعلىٰ، إنا لله وإنا إليه راجعون.

عن عائشة رضي الله عنه قالت: كنت أسمع أنه لا يموت نبي حتىٰ يُخير بين الدنيا والآخرة، فسمعت النبي ﷺ يقول في مرضه الذي مات فيه وأخذته بحّه: «مع الذين أنعم الله عليهم». قالت: فظننت أنه يُخير([11]).

وقالت عائشة رضي الله عنها: قُبض رسول الله ﷺ ورأسه بين سحْري ونَحْري، فلما خرجت نفسه لم أجد ريحاً قط أطيب منها([12]).  قال ابن كثير: «هذا إسناد صحيح»([13]).

وهذا كان يوم الاثنين في الثاني عشر من ربيع الأول في الضحىٰ سنة إحدىٰ عشرة من مهاجره ﷺ، وكانت قد تمت له ثلاث وستون سنة.

 

([1])             أخرجه البخاري (1205).

([2])            الهيئة الظاهرة.

([3])            أي: هذه السنة.

([4])            أخرجه البخاري (3624)، ومسلم (2450)، من حديث عائشة رضي الله عنها.

([5])            أخرجه البخاري (4462)، من حديث أنس رضي الله عنه.

([6])            العرق المتصل بالقلب.

([7])            أخرجه البخاري (4428)، من حديث عائشة رضي الله عنها.

([8])            أخرجه أحمد (12169)، والنسائي في «الكبرىٰ» (7057)، من حديث أنس رضي الله عنه.

([9])            السحر: الصدر. والنحر: الرقبة.

([10])          أخرجه البخاري (4449)، من حديث عائشة رضي الله عنها.

([11])           أخرجه البخاري (4463)، ومسلم (2444)، واللفظ له.

([12])          أخرجه البخاري (4435)، ومسلم (2444).

([13])          أخرجه أحمد (24905)، وأصله في «صحيح البخاري» (4174).