النبي ﷺ يخير بين الموت والحياة
14-03-2023
ثم قال ﷺ مبيناً أن الأمر قد أزف: «إن عبداً خيره الله أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عنده، فاختار ما عنده». قال أبو سعيد: فبكىٰ أبو بكر وقال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا. قال أبو سعيد: فعجبنا له. وقال الناس: انظروا إلىٰ هذا الشيخ، يخبر رسول الله ﷺ عن عبد خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عنده، وأبو بكر يقول: فديناك بآبائنا وأمهاتنا. قال أبو سعيد: فكان رسول الله ﷺ هو المخيَّر وكان أبو بكر أعلمنا.
ثم قال ﷺ: «إن أمنّ الناس عليّ في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً من أمتي لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن أخوة الإسلام ومودته لا يبقيَنّ في المسجد باب إلا سُدّ، إلا باب أبي بكر»([1]).
وفي يوم الخميس قبل وفاة الرسول ﷺ بأربعة أيام، قال: «هلمّوا أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده». فقال عمر رضي الله عنه: إن رسول الله ﷺ قد غلبه الوجع، عندكم القرآن، حسبكم كتاب الله، فاختلف أهل البيت، فمنهم من يقول: قربوا يكتب لكم رسول الله ﷺ، ومنهم من يقول ما قال عمر. فلما أكثروا اللغط والاختلاف؛ قال الرسول ﷺ: «قوموا عني»([2])؛ لأنه لا ينبغي أن يكون عند النبي ﷺ خصام. .
وهنا يقال: كيف منع عمر النبي ﷺ من أن يكتب ذلك الكتاب؟
1 ــ إن عمر لم يمنع النبي ﷺ، وإنما أشفق عليه ﷺ من التعب الذي ألمّ به، وقد أخبر الله بقوله تبارك وتعالىٰ: ﴿ ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلْإِسْلَامَ دِينًا﴾ [المائدة: 3].
وكان النبي ﷺ قد أخبر قبل ذلك: «إنه ليس شيء يقربكم من الجنة ويباعدكم من النار إلا قد أمرتكم به، وليس شيء يقربكم من النار ويباعدكم من الجنة إلا قد نهيتكم عنه»([3]). وعمر رضي الله عنه يعلم أن الدين قد كمل، وأن الأمر قد تم، فأراد أن يرتاح النبي ﷺ.
2 ــ ولو كان هذا الكتاب واجباً ولم يكتبه، لكان قد كتم شيئاً من الدين وهو لم يكتم شيئاً، كيف وقد قال الله تبارك وتعالىٰ: ﴿ يَاأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَٱللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِ﴾ [المائدة: 67].
ثم هذا الكتاب الذي أراد النبي ﷺ أن يكتبه بلّغه شفاهيةً كما في حديث علي رضي الله عنه قال: أمرني النبي ﷺ أن آتيه بطبق يكتب فيه ما لا تضل أمته من بعده. قال: فخشيت أن تفوتني نفسه، قال: فقلت: إني أحفظ وأعي. قال: «أوصي بالصلاة والزكاة وما ملكت أيمانكم»([4]).
قالت عائشة رضي الله عنها: لما مرض النبي ﷺ مرضه الذي توفي فيه حضرت الصلاة فأذَّن بلال وقال النبي ﷺ: «مروا أبا بكر فليصل بالناس». فقيل له: إن أبا بكر رجل أسيف([5]) إذا قام مقامك لم يستطع أن يصليَ بالناس. وأعاد فأعادوا، وأعاد الثالثة وقال: «إنكن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس».
ومعنىٰ قوله: «إنكن صواحب يوسف»: أي أنكن تقلن شيئاً وفي أنفسكن شيء آخر. فعائشة قالت: إنه رجل أسيف وهو كذلك، ولكنها قصدت منع أبي بكر من الصلاة بالناس مع وجود النبي ﷺ، حتىٰ لا يكره الناس أبا بكر محبةً في النبي كما قالت صواحب يوسف: ﴿ ٱمْرَأَةُ ٱلْعَزِيزِ تُرَاوِدُ﴾ وهن يردن رؤية يوسف لا مجرد الطعن في امرأة العزيز.
وخرج أبو بكر ليصلي بالناس، ثم وجد النبي ﷺ في نفسه خفّة فخرج يُهادىٰ بين رجلين كأني أنظر إلىٰ رجليه تخطان الأرض من الوجع، فأراد أبو بكر أن يتأخر فأوْمَأ إليه النبي ﷺ مكانك، ثم أتىٰ وجلس إلىٰ جنبه.
قيل للأعمش: أما كان النبي ﷺ إماماً وأبو بكر يصلي بصلاته والناس تصلي بصلاة أبي بكر؟ فقال برأسه: نعم([6]).
([1]) أخرجه البخاري (3800)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
([2]) أخرجه البخاري (466، 3904)، من حديث أبي سعيد رضي الله عنه.
([4]) أخرجه ابن أبي شيبة «المصنف» (34332)، والبيهقي في «شعب الإيمان» (9891)، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.