ثم بعد ذلك خطب النبي ﷺ يوم النحر، حين ارتفع الضحىٰ، وهو علىٰ بغلة شهباء، والناس بين قائم وقاعد، فتكلم بما تكلم به بالأمس، قال أبو بكر: خطب النبي ﷺ يوم النحر فقال: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم، ثلاث متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مُضر الذي بين جمادىٰ وشعبان». وقال: «أي شهرٍ هذا؟». قلنا: الله ورسوله أعلم. فسكت حتىٰ ظننا أنه سيسميه بغير اسمه. فقال: «أليس ذا الحجة؟». قلنا: بلىٰ. قال: «أي بلد هذا؟». قلنا: الله ورسوله أعلم. فسكت حتىٰ ظننا أنه سيسميه بغير اسمه. فقال: «أليس البلدة؟»([1]) قلنا: بلىٰ. فقال: «أي يومٍ هذا؟». قلنا: الله ورسوله أعلم. فسكت حتىٰ ظننا أنه سيسميه بغير اسمه. قال: «أليس يوم النحر؟». قلنا: بلىٰ.

قال: «فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، وستلقون ربكم ويسألكم عن أعمالكم، ألا فلا ترجعوا بعدي ضُلّالاً يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا هل بلّغت؟». قالوا: نعم. قال: «ألا ليلبغ الشاهد الغائب، فلعل بعض من يبلغه أن يكون أوعىٰ له من بعض من سمعه»([2]).

وفي رواية قال: «ألا لا يجني جانٍ إلا علىٰ نفسه، ألا لا يجني جان علىٰ ولده، ولا مولودٌ علىٰ والده، ألا إن الشيطان قد يئس أن يُعبد في بلدكم هذا، ولكن ستكون له طاعة، فيما تَـحْقِرون من أعمالكم فسيرضىٰ به»([3]).

وأقام ﷺ أيام التشريق في منىٰ يؤدي المناسك، ويعلّم الشرائع، ويذكر الله، ويقيم سنن الهدىٰ من ملة إبراهيم ﷺ، ويمحو آثار الشرك ومعالمه، وقد خطب في بعض أيام التشريق أيضاً كما أخرج أبو داود([4]) عن سراء بنت نبهان قالت: خطبنا رسول الله ﷺ يوم الرؤوس([5])، فقال: «أليس أوسط أيام التشريق». فكانت خطبته في هذا اليوم مثل خطبته يوم النحر.

ووقعت هذه الخطبة عقب نزول سورة النصر، وهي قول الله تبارك وتعالىٰ: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ ٱللَّهِ وَٱلْفَتْحُ وَرَأَيْتَ ٱلنَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ ٱللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَٱسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾ [النصر] نزلت عليه هذه السورة في ذلك المكان ﷺ.

وفي يوم النفر([6])، نفر ﷺ من منىٰ فنزل بخيْف بني كنانة من الأبطح، وأقام هناك بقية يومه وليلته، وصلىٰ الظهر والعصر والمغرب والعشاء ونام. ثم ركب إلىٰ البيت فطاف به طواف الوداع. ولما قضىٰ مناسكه، حث الركاب إلىٰ المدينة النبوية ليستأنف ﷺ بقية حياته.

 

([1])             أخرجه مسلم (1218).

([2])            أي مكة.

([3])            أخرجه البخاري (5550)، ومسلم (1679).

([4])            أخرجه أحمد بنحوه (16064، 14366)، والترمذي (2159)، والنسائي (4085)، وابن ماجه (3055).

([5])            «سنن أبي داود» (1953).

([6])            سمي يوم الرؤوس؛ لأنه فيه يذبح الهدي.