في يوم السبت لأربعٍ بقين من ذي القعدة في السنة العاشرة من هجرة الرسول تهيأ ﷺ للحج.

عن جعفر الصادق عن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم قال: قلت لجابر بن عبد الله: أخبرني عن حجة النبي ﷺ.

فقال بيده فعقد تسعاً([1]) ثم قال: إن رسول الله ﷺ مكث تسع سنين في المدينة لم يحج، ثمّ أُذِّن في الناس في العاشرة أن رسول الله ﷺ حاجٌ، فقدم المدينة بشرٌ كثير، كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله ﷺ ويعمل مثل عمله، فخرجنا معه حتىٰ أتينا ذا الحلَيفة([2])، فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر، فأرسلت إلىٰ رسول الله ﷺ: كيف أصنع؟ قال: «اغتسلي، واستثفري بثوب وأحرمي».

[وهذه السُنة بالنسبة للحائض والنفساء إذا جاءها الحيض أو النفاس قبل إحرامها، فإنها تحرم وتغتسل للإحرام وتلبي].

قال جابر: فصلىٰ رسول الله ﷺ في المسجد ثم ركب القصواء حتىٰ إذا استوت به ناقته علىٰ البيداء([3]) نظرت إلىٰ مد بصري بين يديه من راكب وماشٍ، وعن يمينه مثل ذلك، وعن يساره مثل ذلك، وعن خلفه مثل ذلك. ورسول الله ﷺ بين أظهرنا وعليه ينزل القرآن وهو يعرف تأويله، وما عمل من شيء عملنا به.

فأهلّ بالتوحيد: «لبيك اللَّهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك». وأهلّ الناس بهذا الذي يهلون به، فلم يرد رسول الله ﷺ شيئاً منه.

[أي من الناس من يُلبي تلبيةَ الرسول ﷺ، ومنهم من يلبي غير تلبيته كقول بعضهم: لبيك وسعديك، والخير كله في يديك. وقول بعضهم: لبيك حقاً حقًا، تعبداً ورقًا. وبعضهم يكبر، وبعضهم يحمد، وبعضهم يهلل، وهكذا].

قال: ولزم رسول الله ﷺ تلبيته.

قال جابر: لسنا ننوي إلا الحج، لسنا نعرف العمرة([4])، حتىٰ إذا أتينا البيت معه استلم الركن([5]) فرَمَل([6]) ثلاثاً ومشىٰ أربعاً.

ثم نفذ إلىٰ مقام إبراهيم عليه السلام ثم قرأ: ﴿ وَٱتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾ [البقرة: 125]، فجعل المقام بينه وبين البيت.

فكان أبي يقول([7]) ولا أعلمه ذكره إلا عن النبي ﷺ: إنه كان يقرأ في الركعتين: ﴿قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ﴾ ، و﴿قُلْ يَاأَيُّهَا ٱلْكَافِرُونَ﴾ ، ثم رجع إلىٰ الركن فاستلمه، ثم خرج من الباب إلىٰ الصفا.

فلما دنا رسول الله ﷺ من الصفا قرأ: ﴿ إِنَّ ٱلصَّفَا وَٱلْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ ٱللَّهِ﴾ الآية [البقرة: 158]، ثم قال: «أبدأ بما بدأ الله به»، فبدأ بالصفا فرقىٰ عليه حتىٰ رأىٰ البيت فاستقبله ووحّد الله وكبّره، وقال: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو علىٰ كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده»، ثم دعا بين ذلك، قال مثل هذا ثلاث مرات، ثم نزل إلىٰ المروة.

[وهذه السُنة تركها اليوم كثير من الناس، فهم لا يَعْدُون أن يصلوا إلىٰ المروة فينزلون إلىٰ الصفا وهكذا من الصفا إلىٰ المروة سبع مرات، وهذا خلاف هدي النبي ﷺ. فسنة النبي ﷺ الأولىٰ بنا والأحرىٰ أن نتبعها قدر المستطاع].

قال: ثم نزل إلىٰ المروة حتىٰ إذا انصبت قدماه في بطن الوادي([8]) سعىٰ حتىٰ إذا صعدتا مشىٰ، حتىٰ أتىٰ علىٰ المروة ففعل علىٰ المروة كما فعل علىٰ الصفا، حتىٰ إذا كان آخر طوافه علىٰ المروة قال: «لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أَسُقِ الهدْي ولجعلتها عمرة، فمن كان منكم ليس معه هدْي فَلْيَحِلَّ وليجعلها عمرة».

والحج ثلاثة أنواع:

1 ــ المفرد: الذي يُفرد الحج وحده.

2 ــ القارن: الذي يقرن الحج والعمرة، معاً.

3 ــ المتمتع: الذي يعتمر في أشهر الحج ثم يتحلل ثم يحرم بالحج بعد ذلك.

والصحيح من أقوال أهل العلم أن النبي ﷺ حج قارناً.

واختلف أهل العلم في أي الأنساك أفضل: الإفراد، أو القران أو التمتع؟

وقد جمع شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بين هذه الأقوال فقال: لكلها فضل، فمن اعتمر في أشهر الحج ثم رجع إلىٰ بلده فالأفضل له أن يفرد الحج، ومن ساق الهدي فالأفضل أن يحج قارناً، ومن لم يسق الهدي فالأفضل له أن يحج متمتعاً كما أمر النبي ﷺ أصحابه أن يفعلوا ذلك([9]).

عود إلىٰ حديث جابر: فقام سراقة بن مالك بن جعشم فقال: يا رسول الله، ألعامنا هذا أم للأبد؟ أي العمرة مع الحج. فشبّك رسول الله ﷺ واحدة في الأخرىٰ، وقال: «دخلت العمرة في الحج مرتين([10])، لا، بل لأبد أبد».

وقدم عليٌ من اليمن ببدْنِ النبي ﷺ([11])، فوجد عليّ فاطمة ممن حل([12])، ولبست ثياباً صبيغاً واكتحلت، فأنكر ذلك عليها فقالت: إن أبي أمرني بهذا.

قال: فكان عليٌّ يقول بالعراق بعد ذلك أيام خلافته: فذهبت إلىٰ رسول الله ﷺ محرّشاً علىٰ فاطمة بالذي صَنَعَتْ مستفتياً رسول الله ﷺ فيما ذَكَرَتْ عنه، قال: فأخبرته أني أنكرت ذلك عليها. قال: «صَدَقَتْ، صَدَقَتْ». قال: «ماذا قُلْتَ حين فرضت الحج؟». قال: قلت اللَّهم إني أهلُّ بما أهلّ به رسولك.

[يستحب للمسلم أن يحدد النسك ويسميه، وليس هذا من باب الجهر بالنية؛ لأن النية محلها القلب، ويجوز أن لا يحدد النسك إن كان ينتظر رفقة أو أحد العلماء فيقول: لبيك بما لبىٰ به فلان. فعليٌّ رضي الله عنه لم يحدد النسك، وإنما قال: لبيك بما لبىٰ به رسول الله]، فقال له النبي ﷺ: «فإن معي الهدي، فلا تحِل».

قال جابر: فكان جماعة الهدي الذي قدم به عليٌّ من اليمن، والذي أتىٰ به النبي ﷺ مئة ناقة.

[أقل السُّنَّة أن يُقَدِّم المسلم هدياً عبارة عن شاة، فإن كانت ناقة فهذا أفضل، وكلما زاد العدد كان أفضل].

قال جابر: فأحلَّ الناس كلهم وقصّروا إلا النبي ﷺ ومن كان معه هدي. فلما كان يوم التروية توجهوا إلىٰ منىٰ([13]) فأهلوا بالحج، وركب رسول الله ﷺ فصلىٰ بمنىٰ الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر قصراً من دون جمع، ثم مكث قليلاً حتىٰ طلعت الشمس، وأمر بِقُبَّة من َشْعر أن تُضرب له بنَمِرة([14])، فسار رسول الله ﷺ ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام، كما كانت قريش تصنع في الجاهلية.

[وذلك أن قريشاً لا تخرج من الحرم، ويسمون أنفسهم الحُمْس أي المتحمسون للدين ولا يدخلون عرفة أبداً].

قال: فأجاز رسول الله ﷺ حتىٰ أتىٰ عرفة، فوجد القبة قد ضربت له بنمرة، فنزل بها حتىٰ إذا زاغت الشمس([15]) أمر بالقصواء فرُحِّلت له، فأتىٰ بطن الوادي([16])، فخَطَب الناس، فقال: «إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدميَّ موضوع».

ثم قال ﷺ: «ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث، وكان مسترضعاً في بني سعد فقتلته هذيل».

[الرسول ﷺ يقرر أن أمور الجاهلية انتهت، دماء الجاهلية انتهت، وأول دم أضعه دم ابن عمي وهو ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، فبدأ بنفسه ﷺ].

ثم قال ﷺ: «وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع رِبانا، ربا عباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله، فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله([17])، ولكم عليهن أن لا يُوطِئْن فرشكم أحداً تكرهونه([18])، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبَرّح([19])، ولهن عليكم رزقهنّ وكسوتهن بالمعروف، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به، كتاب الله، وأنتم تُسألون عني فما أنتم قائلون؟». قالوا: نشهد أنك قد بلّغت وأديت ونصحت. فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلىٰ السماء وينكتها إلىٰ الناس: «اللَّهم اشهد، اللَّهم اشهد، اللَّهم اشهد». ثم أذن([20]) ثم أقام فصلىٰ الظهر، ثم أقام فصلىٰ العصر([21]) ولم يصلِّ بينهما شيئاً. أي سنة الظهر الراتبة.

ثم ركب رسول الله ﷺ حتىٰ أتىٰ الموقف([22])، فجعل بطن ناقته القصواء إلىٰ الصخرات وهي عند جبل الرحمة في عرفة، وجعل حبل المشاة بين يديه([23])، واستقبل القبلة، فلم يزل واقفاً حتىٰ غربت الشمس، وذهبت الصفرة قليلاً حتىٰ غاب القرص، وأردف أسامة خلفه في الطريق إلىٰ المزدلفة وقد شنق للقصواء الزمام([24]) حتىٰ إن رأسها ليصيب مَوْرِكَ رحله، ويقول بيده اليمنىٰ: «السكينة السكينة». كلما أتىٰ حبلاً من الحبال أرخىٰ لها([25]) حتىٰ أتىٰ المزدلفة ﷺ، فصلىٰ بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، وصلاها جمع تأخير وقصر، ولم يسبّح بينهما شيئاً، ثم اضطجع حتىٰ طلع الفجر، وصلىٰ الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة.

ثم ركب القصواء حتىٰ أتىٰ المشعر الحرام([26]) فاستقبل القبلة فدعاه وكبره وهلَّله ووحده، فلم يزل واقفاً حتىٰ أسفر جداً، فدفع قبل أن تطلع الشمس مخالفة لقريش.

[فهو خالفهم ﷺ في الذهاب إلىٰ عرفة؛ لأنهم لا يذهبون إلىٰ عرفة كما ذكرنا آنفاً، وظنوا أنه سيقف في المزدلفة كغيره، فدفع إلىٰ عرفة ودفعوا معه، ثم بعد ذلك لما رجع إلىٰ المزدلفة ظنوا أنه سيبقىٰ حتىٰ تطلع الشمس كما كانت تفعل قريش بأنها كانت تبقىٰ في المزدلفة حتىٰ تطلع الشمس، فخرج من المزدلفة قبل طلوع الشمس].

قال: وأردف الفضل بن العباس وكان رجلاً حسن الشعر، أبيض وسيماً، ولما دفع رسول الله ﷺ مرّت به ظعنٌ([27]) يَجْرين فَطَفِقَ الفضل ينظر إليهن، فوضع الرسول ﷺ يده علىٰ وجه الفضل، فحوّل وجهه إلىٰ الشق الآخر ينظر، فحوّل رسول الله ﷺ يده إلىٰ الشق الآخر، حتىٰ أتىٰ بطن مُحَسّر تحرك قليلاً([28]).

ثم سلك الطريق الوسطىٰ التي تخرج علىٰ الجمرة الكبرىٰ، حتىٰ أتىٰ الجمرة التي عند الشجرة، فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة منها حصىٰ الخذف([29])، رمىٰ من بطن الوادي.

ثم انصرف إلىٰ المنحر ونحر ثلاثاً وستين بيده، ثم أعطىٰ علياً فنحر ما غَبَر([30]) وأشركه في هديه، ثم أمر من كل بدنة ببَضْعَة، فجُعلت في قدر فطُبخت فأكل من لحمها وشرب من مرقها، ثم ركب ﷺ فأفاض إلىٰ البيت، فطاف طواف الإفاضة، فصلىٰ بمكة الظهر، فأتىٰ بني عبد المطلب يسقون علىٰ زمزم، فقال: «انزعوا بني عبد المطلب، فلولا أن يغلبكم الناس علىٰ سقايتكم لنزعت معكم». فناولوه دلواً، فشرب منه ﷺ([31]).

 

([1])             بطن من كهلان من قحطان.

([2])            أشار بيده تسعاً.

([3])            ميقات أهل المدينة.

([4])            مكان قريب من ذي الحليفة.

([5])            مع الحج.

([6])            الحجر الأسود.

([7])            مشىٰ سريعاً

([8])            القائل هو جعفر بن محمد الراوي عن أبيه محمد بن علي ابن الحسين.

([9])            أي بين العلمين الأخضرين يجري فيه الرجال دون النساء.

([10])          انظر: «مجموع الفتاوى» (26/33، 101).

([11])           قالها مرتين.

([12])          الإبل.

([13])          اعتمرت وتحللت.

([14])          يوم الثامن من ذي الحجة.

([15])          مكان قريب من عرفة.

([16])          دخل وقت الظهر.

([17])          وادي عُرنة.

([18])          أي: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، يعني الإسلام.

([19])          لا يدخلن بيوتكم أحداً تكرهونه.

([20])         غير مؤلم.

([21])          أي: بلال.

([22])         جمع تقديم مع قصر.

([23])         عرفة.

([24])         مجتمعهم بين يديه.

([25])         أمسك بالزمام وجرّه إليه.

([26])         كلما أتىٰ مكاناً فيه صعود أرخىٰ لها حتىٰ تسير قليلاً وتصعد.

([27])         وادي محسر، وهو من المزدلفة.

([28])         بنات.

([29])         أسرع لأن هذا الوادي هو الذي أهلك الله فيه أهل الفيل علىٰ المشهور.

([30])         الخذف والحذف بمعنىٰ واحد، وقيل: الخذف للحصىٰ، والحذف للعصىٰ.

([31])          أي ما بقي