وهي قصة عجيبة مشابهة لهذه القصة يرويها لنا أبو محمد عبد الله الميورقي([1])، وقد كان نصرانياً ثم أسلم وذكر قصة إسلامه، قال: لما بلغت ست سنين من عمري أسلمني والدي إلىٰ معلم من القسيسين، فقرأت عليه الإنجيل، حتىٰ حفظت أكثر من شطره مدة سنتين، ثم أخذت في تعلّم لغة الإنجيل وعلم المنطق في ست سنين، ثم رحلت من بلدي إلىٰ مدينة لاردا من أرض القسطلان، وهي مدينة العلم عند النصارىٰ.

فسكنت في كنيسة لقسيس كبير السن عندهم كبير القدر اسمه «نقلاو مارتن»، وكانت منزلته فيهم في العلم والدين والزهد رفيعة جداً، انفرد بها في زمنه عن جميع أهل دين النصرانية، فكانت الأسئلة في دينهم ترد عليه من الآفاق، من جهة الملوك وغيرهم، ويصحب هذه الأسئلة كثير من الهدايا الضخمة، ويرغبون جميعاً بالتبرك به وفي قبوله لهداياهم ويتشرفون بذلك.

فقرأت علىٰ هذا القسيس علم الأصول([2]) وأحكامهم، ولم أزل أتقرب إليه بخدمته والقيام بكثير من وظائفه حتىٰ صيرني من أخصّ خواصه، وانتهيت في خدمتي له وتقربي إليه إلىٰ أن دفع إليّ مفاتيح مسكنه، وخزائن مأكله ومشربه، جميع ذلك كله علىٰ يدي، ولم يستثن من ذلك سوىٰ مفتاح بيت صغير بداخله مسكنه، كان يخلو فيه بنفسه. فلازمته علىٰ ما ذكرت من القراءة عليه والخدمة له عشر سنين.

ثم أصابه مرضٌ يوم من الدهر، فتخلّف عن حضور مجلس أقرانه، وانتظره أهل المجلس وهم يتذاكرون مسائل من العلوم إلىٰ أن أفضىٰ بهم الكلام إلىٰ قول الله عز وجل علىٰ لسان عيسىٰ: إنه يأتي من بعده نبي اسمه البارقليط([3]).

فبحثوا في تعيين هذا النبي مَنْ هو مِن الأنبياء، وقال كل واحد منهم بحسب علمه وفهمه، فعظم بينهم في ذلك مقالهم، وكثُر جدالهم، ثم انصرفوا من غير تحصيل فائدة في تلك المسألة.

فأتيت مسكن الشيخ صاحب الدرس المذكور، فقال لي: ما الذي كان عندكم اليوم من البحث في غيبتي عنكم؟ فأخبرته باختلاف القوم في اسم البارقليط، وأن فلاناً قد أجاب كذا، وفلاناً قد أجاب بكذا، وسردت له أجوبتهم. فقال لي: وبماذا أجبت أنت؟ فقلت: بجواب القاضي فلان في تفسيره الإنجيل. فقال لي: ما قصّرت وقرُبت، وفلان أخطأ، وكاد فلان أن يقارب.

يقول عبد الله الميورقي: فلما قال لي: أخطأ فلان وقرب فلان، ولكن الحق خلاف ذلك كله؛ لأن تفسير هذا العلم الشريف لا يعلمه إلا العلماء الراسخون في العلم، وأنتم لم يحصل لكم من العلم إلا القليل. فبادرت إلىٰ قدميه أقبلهما، وقلت له: يا سيدي، قد علمتَ أني ارتحلت إليك من بلد بعيد ولي في خدمتك عشر سنين، حصّلت عنك من العلوم جملة لا أحصيها، فلعل من جميل إحسانكم أن تمنوا عليّ بمعرفة هذا الاسم.

فبكىٰ الشيخ وقال لي: يا ولدي والله أنت لَتَعُزُّ عليَّ كثيراً من أجل خدمتك لي وانقطاعك إليّ، وفي معرفة هذا الاسم الشريف فائدة عظيمة، لكني أخاف عليك، إن يظهر ذلك عليك تقتلك عامة النصارىٰ.

قلت له: يا سيدي، والله العظيم وحق الإنجيل ومن جاء به لا أتكلم بشيء مما تسره إليّ إلا عن أمرك.

فقال لي: يا ولدي، إني سألتك في أول قدومك عليّ عن بلدك وهل هو قريب من المسلمين؟ وهل يغزونكم أو تغزونهم؟ لأختبر ما عندك من منافرة للإسلام، فاعلم يا ولدي أن البارقليط هو اسم من أسماء نبيهم محمد، وعليه نزل الكتاب الرابع([4]) المذكور علىٰ لسان دانيال عليه السلام.

فقلت له: يا سيدي، وما تقول في دين هؤلاء النصارىٰ؟ قال لي: يا ولدي، لو أن النصارىٰ أقاموا علىٰ دين عيسىٰ الأول لكانوا علىٰ دين الله؛ لأن عيسىٰ وجميع الأنبياء دينهم دين الله، ولكن بدلوا وكفروا.

فقلت له: يا سيدي، كيف الخلاص من هذا الأمر؟ قال: يا ولدي، بالدخول في دين الإسلام.

فقلت له: هل ينجو الداخل فيه؟ قال لي: نعم، ينجو في الدنيا والآخرة.

فقلت: يا سيدي، إن العاقل لا يختار لنفسه إلا أفضل ما يعلم، فإذا علمت فضل دين الإسلام فما يمنعك منه؟ فقال لي: يا ولدي، إن الله لم يطلعني علىٰ حقيقة ما أخبرتك به من فضل الإسلام وشرف نبي أهل الإسلام إلا بعد كبر سني ووهن جسمي، ولا عذر لنا، بل هو حجة علينا قائمة، ولو هداني الله لذلك وأنا في سنك لتركت كل شيء ودخلت في دين الحق، وحب الدنيا رأس كل خطيئة، وأنت ترىٰ ما أنا فيه عند النصارىٰ من رفعة الجاه والعز والترف وكثرة عرض الدنيا، ولو أني ظهر عليّ شيء من الميل إلىٰ دين الإسلام لقتلتني العامة في أسرع وقت، وَهَبْ أني نجوت وخَلَصْتُ إلىٰ المسلمين، فأقول لهم: إني جئتكم مسلماً، فيقولون لي: قد نفعت نفسك بنفسك في الدخول بدين الحق، فلا تمنّ علينا بدخولك في دين خلّصت به نفسك من عذاب الله، فأبقىٰ بينهم شيخاً كبيراً فقيراً ابن تسعين سنة، لا أفقه لسانهم، ولا يعرفون حقي فأموت بينهم جوعاً، وأنا والحمد لله علىٰ دين عيسىٰ، وعلىٰ ما جاء به، يعلم الله ذلك مني.

فقلت له: يا سيدي، أفتدلني أن أمشي إلىٰ بلاد المسلمين وأدخل في دينهم.

فقال لي: إن كنت عاقلاً طالباً للنجاة فبادر إلىٰ ذلك تحصل لك الدنيا والآخرة.

وهنا في قوله: «وأنا والحمد لله علىٰ دين عيسىٰ» يكذب فيه علىٰ نفسه؛ لأنه قال أيضاً: «إنهم بدلوا وكفروا» إلا إن كان مسلماً يكتم إسلامه، ويقول بالتوحيد ويكفر بالتثليث ويكتم إيمانه بمحمد ﷺ.

ثم قال لي: ولكن يا ولدي هذا أمر لم يحضره أحد معنا فاكتمه في غاية جهدك، وإن ظهر عليك شيء منه قتلتك العامة بحينك، ولا أقدر علىٰ نفعك ولا ينفعك أن تنقل ذلك عني، فإني أجحده وقولي مصدق عليك، وقولك غير مصدق عليّ.

ثم أخذت أسباب الرحلة، إلىٰ أن رحلت بعد ذلك إلىٰ تونس ودخلت في دين الله تبارك وتعالىٰ([5]).

وكلمة «بارقليط» هذه يقول عنها الأستاذ عبد الوهاب النجار: جلست مع الدكتور كارلو نيلنو فقلت له: يا دكتور ما معنىٰ باركليتوس؟ فأجابني بقوله: إن القسس يقولون: إن هذه الكلمة معناها المُعَزِّي. فقلت له: إني أسأل الدكتور كارلو نيلنو الحاصل علىٰ الدكتوراه في آداب اللغة اليونانية القديمة ولست أسأل قسيساً. فقال: معناها الذي له حمد كثير. فقلت له: هل ذلك يوافق أفعل التفضيل من حمد؟ قال: نعم. قلت: إن رسول الله ﷺ من أسمائه أحمد. فقال لي: يا أخي إنك تحفظ كثيراً، وسكت»([6]).

يقول ابن عباس عن وفد نجران: اجتمعت نصارىٰ نجران وأحبار يهود عند رسول الله ﷺ، فتنازعوا فقالت الأحبار: ما كان إبراهيم إلا يهودياً. وقالت النصارىٰ: ما كان إلا نصرانياً.

فأنزل الله تبارك وتعالىٰ: ﴿يَاأَهْلَ ٱلْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ ٱلتَّوْرَاةُ وَٱلْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ إِنَّ أَوْلَى ٱلنَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ وَهَذَا ٱلنَّبِيُّ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا وَٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلْمُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 65 ــ 68].

رد الله تبارك وتعالىٰ عليهم قولهم، فسألوا رسول الله ﷺ عن عيسىٰ ﷺ ما يكون؟ وما يقول فيه المسلمون؟ فأنزل الله تبارك وتعالىٰ قوله: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ ٱللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ٱلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ ٱلْمُمْتَرِينَ فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ ٱلْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ ٱللَّهِ عَلَى ٱلْكَاذِبِينَ﴾ [آل عمران: 59 ــ 61].

فطالبهم النبي ﷺ بالمباهلة([7])، فوافقوا علىٰ المباهلة في أول الأمر، فطلب النبي ﷺ علياً وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم ليباهل بهم، فلما رأوا صدق النبي ﷺ وأنه يريد أن يباهل قالوا له: بل أرسل معنا من يعلمنا هذا الدين.

وقال شرحبيل لصاحبيْه: لقد علمتما أن الوادي إذا اجتمع أعلاه وأسفله لم يَرِدْ ولم يَصْدُر إلا عن رأيي، وإني والله أرىٰ أمراً مقبلاً، وأرىٰ والله إن كان هذا الرجل مَلِكاً مبعوثاً فكنّا أول العرب طعن في عينه، وردّ إليه أمره، لا يذهب لنا من صدره ولا من صدور قومه حتىٰ يصيبنا بجائحة، وأنا أدنىٰ العرب منهم جواراً، وإن كان هذا الرجل نبياً مرسلاً فلاعنّاه فلا يبقىٰ علىٰ وجه الأرض منّا شعرة ولا ظفر إلا هلك.

فقال له صاحباه: فما الرأي فقد وُضِعَتْ الأمور علىٰ ذراع، فهات رأيك؟ فقال: رأيي أن أحكّمه، فإني أرىٰ رجلاً لا يحكم شططاً أبداً. فقالا له: أنت وذاك. فلقي النبي ﷺ فقال: إني قد رأيت خيراً من ملاعنتك. فقال: «ما هو؟» قال: حكمك اليوم إلىٰ الليل، وليلتك إلىٰ الصباح، فمهما حكمت فينا فهو جائز. فقال ﷺ: «لعل وراءك أحد يُثرّب عليك»([8]). فقال: سل صاحبَيَّ. فسألهما فقالا: ما يَرِدُ الوادي وما يَصْدُر إلا علىٰ رأي شرحبيل. فقال رسول الله ﷺ: «كافر موفق»([9]).

فرجع النبي ﷺ ولم يلاعنهم وكتب لهم كتاباً طويلاً([10])، ثم أرسل أبا عبيدة عامر بن الجراح ليفقههم في دين الله تبارك وتعالىٰ، وكان قد قال لهم: لأرسلنّ معكم أميناً حق أمين. وأرسل أبا عبيدة وقال: «هذا أمين هذه الأمة»([11]).

 

([1])             يريد رسول الله ﷺ.

([2])            نسبة إلىٰ ميوركا في أسبانيا.

([3])            أصول النصرانية.

([4])            إنجيل يوحنا، الإصحاح 16، الفقرة الخامسة.

([5])            بعد التوراة والإنجيل والزبور وهو القرآن.

([6])            ومن أراد أن يرجع إلىٰ هذه القصة فقد ذكرها في كتابه «تحفة الأريب في الرد علىٰ أهل الصليب» ص38 وما بعدها، ففي مقدمة هذا الكتاب ذكر قصته وتحوله من دين النصرانية إلىٰ دين الإسلام.

([7])            قصص الأنبياء لعبد الوهاب النجار (قصة عيسىٰ).

([8])            المباهلة: الدعاء باللعنة على الكاذب، وتكون لإحقاق الحق وإبطال الباطل.

([9])            يرد عليك.

([10])          كافر والناس تتبعه.

([11])           أخرجه البيهقي في «الدلائل» (5/384 ــ 389).