مسجد ضرار
14-03-2023
وقبل خروج النبي ﷺ إلىٰ تبوك بنىٰ بعض المنافقين مسجداً، وقالوا للنبي ﷺ: تعال فصل بهذا المسجد ركعتين أو صلاة من الصلوات، ثم نتخذه بعد ذلك مسجداً. فقال النبي ﷺ: «إذا رجعت من تبوك أفعل إن شاء الله». وذلك قريباً من مسجد قباء، وأرادوا أن يصلي لهم رسول الله ﷺ حتىٰ يروج لهم ما أرادوا من الفساد والكفر والعناد، فعصم الله رسوله ﷺ من الصلاة فيه، وذلك أنه كان علىٰ جناح سفرٍ إلىٰ تبوك([1]).
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: «فلما رجع منها([2])، نزل بذي أوان([3])، فنزل عليه الوحي بشأن هذا المسجد وهو قوله تعالىٰ: ﴿وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا ٱلْحُسْنَى وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى ٱلتَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُطَّهِّرِينَ أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَٱنْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَٱللَّهُ لَا يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ ٱلَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة: 107 - 110]».
وأما قول الله تبارك وتعالىٰ في هذه الآية الكريمة: ﴿ وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ﴾ ، فهذا المسجد اتُّخِذ ﴿ضِرَارًا﴾ ً أي للإضرار بالمسلمين، ﴿وَكُفْرًا﴾ ً أي ما أرادوا به وجه الله، ﴿ وَتَفْرِيقًا بَيْنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ﴾ أي عن طريق الجلوس بهذا المسجد وحياكة المؤامرات، ﴿ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ﴾ أي يكون هذا المسجد مكاناً لاجتماع من حارب الله ورسوله من قبل.
وهذا أبو عامر الراهب كان نصرانياً يسمىٰ بأبي عامر الفاسق، لأنه دعاه الرسول ﷺ إلىٰ الإسلام، فذهب إلىٰ أهل مكة يستنفرهم علىٰ رسول الله ﷺ، فجاؤوا عام أحد لقتال النبي ﷺ، ثم ذهب أبو عامر هذا إلىٰ ملك الروم «قيصر» يستنصره علىٰ رسول الله ﷺ، وكان يكتب إلىٰ إخوانه الذين نافقوا يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غروراً، وكان من شياطين الإنس.
فكانت مكاتباته ورسله تفد إليهم كل حين، فبنوا هذا المسجد، في الصورة الظاهرة أنه مسجد، وباطنه دار لحرب وقتال النبي ﷺ، وهو مقرٌ لمن يفد من رسل أبي عامر الراهب، ومجمع كذلك لمن هو علىٰ طريقتهم من المنافقين؛ ولهذا قال الله تعالىٰ: ﴿ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ﴾ .
ثم قال: ﴿ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا ٱلْحُسْنَى﴾ أي إنما أردنا ببنائه الخير، ﴿ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ ؛ لأنه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
ثم قال: ﴿ لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا﴾ ، فنهاه عن القيام فيه لئلا يقرر أمره، ثم أمره وحثه علىٰ القيام في المسجد الذي أسس علىٰ التقوىٰ من أول يوم ألا وهو مسجد قباء. عندها أمر النبي ﷺ مالك بن الدخشم ومعن بن عدي رضي الله عنهما ليذهبا إلىٰ ذلك المسجد الظالم أهله فيحرقاه بالنار، فذهبا فحرقاه بالنار»([4]).
وهذا الحكم ليس خاصاً بهذا المسجد، بل كل مسجد لم يُبنَ علىٰ التقوىٰ فإن مصيره أن يهدم؛ لأن الأصل في بناء المسجد أن يبنىٰ علىٰ تقوىٰ من الله تبارك وتعالىٰ، وما لم يبنَ علىٰ التقوىٰ؛ فإنه لا تجوز الصلاة فيه، ويفرق بين البيت والكنيسة والمسجد الذي يبنىٰ للضرار، فالبيت يمكن أن يحول إلىٰ مسجد وكذا الكنيسة يمكن أن تحول إلىٰ مسجد؛ لأنها ما بنيت أصلاً كمسجد، لكن أن يبنىٰ علىٰ أنه مسجد وهو للضرار فلا يجوز أن يصلىٰ فيه، بل يجب أن يُهدم ويبنىٰ من جديد علىٰ تقوىٰ من الله تبارك وتعالىٰ.
([1]) انظر: «السيرة» لابن هشام (2/529).