رجع النبي ﷺ من تبوك مظفراً منصوراً، وكفاه الله جلّ وعلا القتال، ولكن وقعت حادثة تحتاج إلىٰ تأمل ووقفة، ألا وهي أن بعض المنافقين الذين خرجوا مع النبي ﷺ حاولوا قتله، إذْ تآمروا أن يطرحوا النبي ﷺ من رأس عقبة في الطريق([1])، فلما بلغوا العقبة أرادوا أن يسلكوها معه فلما غشيهم الرسول ﷺ، أُخبر خبرهم([2])، فقال ﷺ: «من شاء منكم أن يأخذ ببطن الوادي فإنه أوسع لكم». وأخذ الرسول ﷺ العقبة، وأخذ الناس ببطن الوادي، إلا هؤلاء جاؤوا خلف النبي ﷺ يريدون رميه من العقبة. فلما رأوا الناس ابتعدوا عن الرسول ﷺ تلثموا واستعدوا وهموا بهذا الأمر العظيم، والعياذ بالله.

فأمر النبي ﷺ حذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر فمشيا معه وأمر عماراً أن يأخذ بزمام الناقة، وأمر حذيفة أن يسوقها، فبينما هم يسيرون إذ سمعوا وكزة القوم من ورائهم قد غشوه، فغضب الرسول ﷺ منهم، فأمر حذيفة أن يردهم قال: «قل لهم أن يرجعوا إلىٰ بطن الوادي».

وأبصر حذيفة غضب رسول الله ﷺ فرجع ومعه مِحْجَل([3])، فاستقبل وجوه رواحلهم وضربها بها، وأبصر القوم وهم متلثمون، ولا يشعر بذلك إلا لفعل السفر([4])، فأرعبهم الله سبحانه وتعالى حين أبصروا حذيفة، وظنوا أن مكرهم قد ظهر له. فأسرعوا حتىٰ خالطوا الناس؛ حتىٰ لا يُعرفوا، وأقبل حذيفة حتىٰ أدرك رسول الله ﷺ.

فقال رسول الله ﷺ: «اضرب الراحلة يا حذيفة، وامش أنت يا عمّار». وأسرَعوا حتىٰ استووا بأعلاها. فخرجوا من العقبة ينتظرون الناس، فقال النبي ﷺ لحذيفة: «هل عرفت من هؤلاء الرهط؟ أو عرفت أحداً منهم؟». قال حذيفة: عرفت راحلة فلان وفلان، وكانت ظُلْمة يا رسول الله، وغشيتهم وهم متلثمون. فقال ﷺ: «هل علمتم ما كان شأن الركب وما أرادوا؟». قالوا: لا والله يا رسول الله ما عرفنا. قال: «فإنهم مكروا ليسيروا معي حتىٰ إذا اطلعت في العقبة طرحوني منها». قالوا: أَوَلا تأمر بهم يا رسول الله إذاً فنضرب أعناقهم. قال: «أكره أن يتحدث الناس ويقولوا: إن محمداً قد وضع يده في أصحابه». وسمّاهم لحذيفة وقال: «اكتمهم».

وفي رواية أنه سمّاهم لحذيفة وعمار وقال: «اكتماهم»([5]).

وفي بعض طرق هذه القصة ما ذكره ابن إسحاق في سيرته ومغازيه([6]): أن النبي ﷺ لما أصبح قال لحذيفة: ادع لي عبد الله بن أُبيّ، وأبا خاطر الأعرابي، وأبا عامر، والجلّاس بن سويد بن الصامت، وهو الذي قال: لا ننتهي حتىٰ نرمي محمداً من العقبة الليلة، وإن كان محمد وأصحابه خيراً منّا، إنّا إذاً لغنم وهو الراعي، ولا عقل لنا وهو العاقل.

وأمره كذلك أن يدعوَ مجمع بن حارثة ومليحاً التيمي، وهو الذي سرق طيب الكعبة وارتد عن الإسلام بعد ذلك، كما أمره أن يدعو حصن بن نمير، وطعيمة بن أبيرق، وعبد الله بن عيينة، وهو الذي قال لأصحابه: اسهروا هذه الليلة تسلموا الدهر كله، فوالله ما لكم أمر دون أن تقتلوا هذا الرجل.

فدعاه النبي ﷺ فقال له: «ويحك! ما كان ينفعك من قتلي لو أني قتلت؟». فقال عبد الله: فوالله يا رسول الله لا نزال بخير ما أعطاك الله النصر علىٰ عدوك، إنما نحن بالله وبك. فتركه رسول الله ﷺ وقال: «ادعُ لي مرة بن الربيع»، وهو الذي قال: نقتل الواحد الفرد فيكون الناس عامة بقتله مطمئنين. وقال له رسول الله ﷺ: «ويحك! ما حملك علىٰ أن تقول الذي قلت؟». فقال: يا رسول الله، إن كنت قلت شيئاً من ذلك إنك لعالم به، وما قلت شيئاً من ذلك.

فجمعهم رسول الله ﷺ وهم اثنا عشر رجلاً، وأخبرهم بقولهم ﷺ ومنطقهم وسرهم وعلانيتهم، وأطلع الله سبحانه وتعالى نبيه علىٰ ذلك وعلّمه ما كان منهم([7]).

وهم الذين قال الله فيهم: ﴿يَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ ٱلْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ ٱللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي ٱلْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ﴾ [التوبة: 74].

 

([1])             من مكان مرتفع.

([2])            أخبره الله تعالىٰ بما يمكرون.

([3])            حديدة صغيرة.

([4])            يظن أنهم متلثمون لأجل السفر فقط.

([5])            أخرجه البيهقي في «الدلائل» (5/256 ــ 257)، و«السنن» (3219).

([6])            أخرجه البيهقي في «الدلائل» (5/257).

([7])            «الدلائل» للبيهقي (5/258 ــ 259).