فضيلة لأبي ذر رضي الله عنه
14-03-2023
وكذلك كان من المتأخرين عن النبي ﷺ أبو ذر الغفاري، وذلك أن أبا ذر تلوّم عليه بعيره([1])، فلما أبطأ أخذ متاعه علىٰ ظهره، ثم خرج يمشي علىٰ رجليه، يتبع أثر رسول الله ﷺ ماشياً، وكان رسول الله ﷺ قد نزل في بعض المنازل، فنظر ناظرٌ من المسلمين، فقال: يا رسول الله إن هذا الرجل يمشي علىٰ الطريق لوحده. فقال رسول الله ﷺ: «كن أبا ذر». فلما تأمله القوم قالوا: يا رسول الله هو والله أبو ذر. فقال ﷺ: «رحم الله أبا ذر، يمشي وحده، ويموت وحده، ويُبعث وحده»([2]). وهذا الحديث حسّنه الحافظ ابن كثير رحمه الله([3])، وإن كان في إسناده كلام، ولكن في الواقع وقع جزء من هذه المسألة، وهي من ثلاثة أجزاء:
الأول: يمشي وحده، وهذه الحادثة تبين لنا أنه مشىٰ وحده رضي الله عنه.
الثاني: يموت وحده، وهذه أيضاً وقعت، لما خرج أبو ذر إلىٰ الرَبَذَة، لم يكن أحد معه إلا امرأته وغلامه، وأقبل عبد الله بن مسعود في رهطٍ له من أهل العراق معتمرين مروراً بالمدينة، فلم يرعهم إلا بالجنازة، وقام إليهم الغلام، فقال: هذا أبو ذر، صاحب رسول الله ﷺ فأعينونا علىٰ دفنه. فبكىٰ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وقال: صدق رسول الله ﷺ تمشي وحدك، وتموت وحدك، وتُبعث وحدك. ثم نزل هو وأصحابه فوارَوْه.
قالت زوجته: لمّا حضرت أبا ذر الوفاة بكيت. فقال لي: ما يبكيك؟ قلت: ما لي لا أبكي، وأنت تموت بفلاة من الأرض، وليس عندي ثوب يسعك كفناً، ولا يدان لي في تغييبك([4]). قال: أبشري، ولا تبكي، فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول لنفرٍ أنا فيهم: «ليموتن الرجل منكم بفلاة من الأرض يشهده عصابة من المسلمين». وليس أحدٌ من أولئك النفر إلا مات في قرية وجماعة([5]). فأنا ذلك الرجل، فوالله ما كذَبت وما كُذِبت، فأبصري الطريق. تقول أم ذر: أنّا وقد ذهب الحاج، وتقطعت الطرق؟ فقال: اذهبي، فتبصري. قالت: فكنت أستند إلىٰ الكثيب([6]) أتبصّر، ثم أرجع فأمرضه. فبينما أنا علىٰ ذلك، إذ أنا برجالٍ علىٰ رحالهم، تخضّ بهم رواحلهم([7])، فأشرت إليهم. فأسرعوا إليّ، حتىٰ وقفوا عليَّ فقالوا: يا أمة الله ما لك؟ قالت: امرؤ من المسلمين يموت، تكفنونه؟ قالوا: ومن هو؟ قالت: أبو ذر. قالوا: صاحب رسول الله ﷺ. قالت: نعم.
ففدَّوْه بآبائهم وأمهاتهم، وأسرعوا إليه حتىٰ دخلوا عليه، فقال لهم: أبشروا، فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول لنفرٍ وأنا فيهم: «ليموتن رجل منكم بفلاة من الأرض، يشهده عصابة من المؤمنين»، وليس من أولئك النفر رجل إلا وقد هلك في جماعة، والله ما كَذَبتُ وما كُذِّبْت، إنه لو كان عندي ثوب يسعني كفناً لي أو لامرأتي لم أكفّن إلا في ثوبٍ هو لي أو لها. فإني أنشدكم الله أن لا يكفنني رجل منكم كان أميراً أو عريفاً أو بريداً أو نقيباً([8]).
وليس من أولئك النفر أحد إلا وقد قارف بعض ما قال إلا فتىٰ من الأنصار، قال: أنا يا عم أكفنك في ردائي هذا، وفي ثوبين من عيبتي من غزل أمي. قال: أنت فكفِنِّي. فكفنه الأنصاري وقاموا عليه بعد أن مات، ودفنوه في نفرٍ كلهم من أهل اليمن([9]).
([2]) أخرجه الحاكم في المستدرك (3/50).
([3]) «البداية والنهاية» (5/9).
([4]) أي لا أستطيع حتىٰ أن أدفنك.
([5]) وهذا تصديق لقول النبي ﷺ وإيمان به.
([9]) أخرجه ابن حبان في «صحيحه» (6671)، والبزار في «المسند» (4060).