بلغت الأخبار النبي ﷺ وهو في المدينة أن الروم تستعد لقتاله، وأن هرقل هيأ جيشاً عرمرماً، قوامه أربعون ألف مقاتل، وأنه أجلب معه قبائل لخمٍ وجذام وغيرهما من نصارىٰ العرب، وأنهم وصلوا إلىٰ مكان يقال له: البلقاء. فقرر ﷺ القيام بغزوة فاصلة، يخوضها المسلمون ضد الرومان في حدودهم، ولا يمهلهم حتىٰ يزحفوا إلىٰ دار الإسلام.

فأعلن النبي ﷺ في الصحابة أن يتجهزوا للقتال، وبعث إلىٰ القبائل من العرب وإلىٰ أهل مكة يستنفرهم، وكان قلّما يريد غزوة إلا وَرَّىٰ([1]) بغيرها، وفي هذه الغزوة ما وَرَّىٰ ﷺ لخطورة الموقف، فأعلن أنه يريد غزو الروم.

فلما سمع المسلمون كلام النبي ﷺ تسابقوا إلىٰ امتثال أمره، وتجهزوا للقتال، وأخذت القبائل تدخل إلىٰ المدينة من كل صوب وناحية.

وأمر النبي ﷺ الناس بالاستعداد، فقام رجل اسمه الجد بن قيس وهو من المنافقين فقال له النبي ﷺ: «يا جد هلّ لك في جلاد بني الأصفر([2])؟» قال:  يا رسول الله، أوَ تأذن لي ولا تفتني، فوالله لقد عرف قومي أنه ما من رجل بأشد عُجباً بالنساء منّي، وإني أخشىٰ إن رأيت نساء بني الأصفر أن لا أصبر. فأعرض عنه النبي ﷺ وقال له: «قد أذنت لك». فأنزل الله تبارك وتعالىٰ: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ٱئْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي ٱلْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِٱلْكَافِرِينَ﴾ [التوبة: 49]([3]).

وقال قوم من المنافقين لبعضهم: لا تنفروا في الحر، فأنزل الله تبارك وتعالىٰ: ﴿ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي ٱلْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا﴾ [التوبة: 81].

ثم إن الرسول ﷺ أمر الناس بالتجهز وأمر بالنفقة، فجاء عثمان بن عفان إلىٰ النبي ﷺ بألف دينار في ثوبه حين جهّز النبي ﷺ جيش العسرة، فصبّها في حجر النبي ﷺ، فجعل النبي ﷺ يقلبها في يده ويقول: «ما ضرّ عثمان ما فعل بعد اليوم» أخرجه الترمذي بإسناد حسن([4]).

وقال عبد الرحمن بن خباب بن الأرت: شهدت رسول الله ﷺ وهو يحثُّ علىٰ تجهيز جيش العسرة، فقام عثمان بن عفان فقال: يا رسول الله، عليّ مئة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله. ثم حض النبي ﷺ علىٰ تجهيز الجيش، فقال عثمان: يا رسول الله، عليّ مائتا بعير بأحلاسها وأقتابها. فحض النبي ﷺ كذلك فقام عثمان فقال: عليّ ثلاثمئة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله.

يقول عبد الرحمن: فأنا رأيت رسول الله ﷺ ينزل عن المنبر وهو يقول: «ما علىٰ عثمان ما عمل بعد هذه، ما علىٰ عثمان ما عمل بعد هذه»([5])، بعكس الجد بن قيس المنافق.

كان علبة بن زيد، يصلي من الليل ويبكي ويقول: اللَّهم إنك قد أمرت بالجهاد، ورَغَّبْتَ فيه، ثم لم تجعل عندي ما أتقوىٰ به مع رسولك ﷺ، ولم تجعل في يَدَي رسولك ما يحملني عليه، وإني أتصدّق علىٰ كل مسلم بكل مظلمة أصابني فيها من مال أو جسد أو عرض.

وهذا الرجل من الفقراء الذين خرجوا للرسول ﷺ يريدون القتال معه فقال لهم النبي ﷺ: «لا أجد ما أحملكم عليه»، فرجعوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً أن لا يجدوا ما ينفقون. ثم أصبح هذا الرجل مع الناس، فقام النبي ﷺ بالناس فقال: «أين المتصدق هذه الليلة؟»، فلم يقم إليه أحد. أين المتصدق؟ فليقم. فقام إليه علبة بن زيد. فأخبره بما حدث، فقال النبي ﷺ: «أبشر، فوالذي نفس محمد بيده لقد كُتبت في الزكاة المتقبلة»([6]).

قال الله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَى ٱلضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى ٱلْمَرْضَى وَلَا عَلَى ٱلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى ٱلْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَلَا عَلَى ٱلَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ﴾  [التوبة: 91-92].

وفي هذه الفترة استخلف علىٰ المدينة محمد بن مسلمة، وقيل: سباع بن عرفطة. وأمر النبي ﷺ علي بن أبي طالب أن يبقىٰ مع أهله ــ أي مع زوجات النبي ﷺ ــ وابنته فاطمة وأولاده الحسن والحسين، ومن ترك من أهل بيته يرعاهم.

فتكلم بعض المنافقين في علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقالوا: ما خلّفه إلا استثقالاً وتخففاً منه. فأخذ علي رضي الله عنه سلاحه ثم خرج حتىٰ أتىٰ النبي ﷺ وهو نازلٌ بالجرف([7]) ينتظر من تأخر عن الجيش، فقال: يا نبي الله، زعم المنافقون أنك إنما خلّفتني لأنك استثقلتني. فقال: «كذبوا، ولكني خلّفتك لما تركت ورائي، فارجع فاخلفني في أهلي وأهلك، أفلا ترضىٰ أن تكون مني بمنزلة هارون من موسىٰ، إلا إنه لا نبي بعدي».

وأخرجه البخاري ومسلم([8]) عن علي أنه أتىٰ الرسول ﷺ وقال: أتخلّفني في الصبيان والنساء؟. فقال: «ألا ترضىٰ أن تكون مني بمنزلة هارون من موسىٰ، إلا إنه ليس نبي بعدي». وهذه منزلة عظيمة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

 

([1])             التورية: أن يتكلم بكلام يفهم السامع منه خلاف مراد المتكلم بعبارة محتملة.

([2])            أي الروم.

([3])            أخرجه ابن أبي حاتم في «التفسير» (6600)، من حديث جابر رضي الله عنهٱ

([4])            أخرجه الترمذي (3701)، من حديث عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه، بإسناد حسن.

([5])            أخرجه الترمذي (3700)، وفيه إسناده رجل مجهول.

([6])            أخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» (6/262).

([7])            مكان يبعد عن المدينة ثلاثة أميال تقريباً.

([8])            «صحيح البخاري» (4416)، «صحيح مسلم» (2404).