رجع النبي ﷺ من حصار ثقيف بالطائف إلىٰ الجعرانة، ومكث فيها بضع عشرة ليلة لا يقسم الغنائم ينتظر هوازن أن تأتي تائبة فيعطيهم أموالهم.

وأعطىٰ النبي ﷺ أبا سفيان بن حرب أربعين أوقية ومئة من الإبل، وأعطىٰ حكيم بن حزام مئة من الإبل، وأعطىٰ صفوان بن أمية مئة من الإبل، ثم مئة ثم مئة.

وأعطىٰ الحارث بن كلدة مئة من الإبل، وأعطىٰ آخرين علىٰ خمسين، خمسين من الإبل.

وكل هذا لتأليف قلوبهم، فبعضهم من المسلمين الذين أسلموا بالفتح، وبعضهم من الذين مازالوا علىٰ الشرك فكان النبي ﷺ يتألفهم بهذه الأموال. وأعطىٰ بعضهم خمسين وبعضهم أربعين بحسب مكانته من قومه. فازدحمت عليه الأعراب يطالبون بالمال حتىٰ اضطروه إلىٰ الشجرة.

فقال النبي ﷺ: «أيها الناس، والذي نفسي بيده لو كان عندي شجر تهامة نَعَماً لقسمته عليكم، ثم ما ألفيتموني بخيلاً ولا جباناً ولا كذاباً. أيها الناس، والله ما لي من فيئكم، ولا هذه الوبرة إلا الخمس والخمس مردود عليكم»([1]).

وساق لنا البخاري فعل بعض الأعراب مع النبي ﷺ، فعن أبي سعيد الخدري قال: بعث علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلىٰ رسول الله ﷺ من اليمن بِذُهَيْبة من أَدِيم مَقْروض([2]) لم تُحصّل من ترابها([3])، فقسمها بين أربعة نفر، بين عيينة بن بدر والأقرع بن حابس وزيد الخيل والرابع إما علقمة أو عامر بن الطفيل، فقال رجل من أصحابه: كنا نحن أحق بهذا من هؤلاء. فبلغ ذلك النبي ﷺ فقال: «ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء، يأتيني خبر السماء صباحاً ومساءً»، فقام إليه رجل غائر العينين، مشرف الوجنتين، ناشز الجبهة، كث اللحية، محلوق الرأس، مشمّر الإزار فقال: يا رسول الله، اتق الله. فقال له رسول الله ﷺ: «ويلك أوَ لست أحق أهل الأرض أن يتقيَ الله؟»، ثم ولَّىٰ الرجل، وقال خالد بن الوليد: يا رسول الله، ألا أضرب عنقه. قال: «لا، لعلّه أن يكون يصلي». فقال خالد: وكم من مصلٍ يقول بلسانه ما ليس في قلبه. فقال النبي ﷺ: «إني لم أومر أن أُنَقِّب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم». ثم نظر إليه وهو مقفٍ فقال: «إنه يخرج من ضئضئي هذا قوم يتلون كتاب الله رغباً لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرَّمِيَّة لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل ثمود»([4]).

وقال أبو موسىٰ الأشعري: كنت عند النبي ﷺ وهو نازل بالجعرانة ومعه بلال، فأتىٰ النبيَّ ﷺ أعرابيٌّ فقال: ألا تنجز لي ما وعدتني؟ فقال له: «أَبْشِرْ». فقال الرجل: قد أكثرت عليّ من أبشر. فأقبل النبي ﷺ عليَّ وعلىٰ بلال كهيئة الغضبان، فقال: «ردّ البشرىٰ فاقبلا أنتما». قالا: قبلنا. ثم أُتي بقدحٍ فيه ماء، فغسل يديه ووجهه فيه، ومجّ فيه([5]) ثم قال: «اشربا منه وأفرغا علىٰ وجوهكما ونحوركما وأبشرا». فأخذا القدح ففعلا، فنادت أم سلمة من وراء الستر: أن أفضلا لأمكما. فأفضلا لها([6]).

هكذا فعل أصحاب النبي ﷺ أما أولئك من المنافقين أو الذين ما خالط الإيمان قلوبهم من الغلظة والأذىٰ الذي أوقعوه في النبي ﷺ؛ فأولئك من الخوارج الذين خرجوا علىٰ أمة رسول الله ﷺ، لا يبالون يضربون برّهم وفاجرهم.

 

([1])             أخرجه بنحوه أحمد (2/184)، والنسائي (3688).

([2])            جلد مدبوغ.

([3])            مازال فيها تراب.

([4])            أخرجه البخاري (4351)، ومسلم (1064).

([5])            أي تفل فيه.

([6])            أخرجه البخاري (4328)، ومسلم (2497).