ثم نهض رسول الله ﷺ والمهاجرون والأنصار بين يديه وخلفه وحوله ودخل المسجد الحرام، وأقبل إلىٰ الحجر الأسود فاستلمه، ثم طاف بالبيت وفي يده قوس وحول البيت وعليه ثلاثمئة وستون صنماً، فجعل يطعنها بالقوس ويقول: «﴿ جَاءَ ٱلْحَقُّ وَزَهَقَ ٱلْبَاطِلُ إِنَّ ٱلْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا﴾ [الإسراء: 81]، ﴿ جَاءَ ٱلْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ ٱلْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ﴾ [سبأ: 49]».

هذه كانت قبل قليل آلهة مقدسة تُعبد وتدعىٰ ويستغاث بها، أما الآن فهي جص وتراب، كما قال نبي الله إبراهيم ﷺ لقومه: ﴿قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ﴾ [الشعراء: 72 ــ 73].

فدخل النبي ﷺ إلىٰ بيت الله الحرام، ثم دخل الكعبة، وصلىٰ هناك وكبّر في نواحي البيت ووحد الله سبحانه وتعالى، ورأىٰ داخل الكعبة صوراً لإبراهيم وإسماعيل يستقسمان بالأزلام([1]) كفعل أهل الجاهلية، وقال: «قاتلهم الله والله ما استقسما بهما قط»، ثمّ أمر بالصور فمُحيت ولم يُصَلِّ في البيت، حتىٰ مُحيت فلما محيت صلىٰ داخل البيت ركعتين، وفي وهذا دليل علىٰ كراهية الصلاة في المكان الذي فيه صور.

ثم جلس في المسجد ﷺ وقام إليه علي بن أبي طالب ومعه مفتاح الكعبة فقال له: يا رسول الله اجمع لنا الحجابة مع السقاية صلىٰ الله عليك([2]). وكانت المفاتيح قبل ذلك عند عثمان بن طلحة من بني شيبة. فقال رسول الله ﷺ: «أين عثمان بن طلحة؟». فدُعي له. فقال له: «هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم بر ووفاء»، ثم أعطاه المفتاح. وقال له: «خذها خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم»([3]). واستمرت مفاتيح الكعبة مع بني شيبة.

يقول ابن حزم رحمه الله: «فهي اليوم في ولده»([4])، وكلام ابن حزم كان سنة ست وخمسين وأربع مئة (456) من الهجرة، واليوم في يومنا هذا سنة ست وعشرين وأربع مئة وألف (1426) من الهجرة والمفتاح مازال مع بني شيبة([5]).

وقيل: إن أهل مكة جاؤوا إلىٰ النبي ﷺ فقال لهم: «يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم؟». فقالوا: خيراً، أخٌ كريم وابن أخ كريم. قال: «فإني أقول لكم كما قال يوسف لأخوته: ﴿ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ ٱلْيَوْمَ﴾ ، اذهبوا فأنتم الطلقاء»، ولكنه ضعيف لا يصح سنداً([6])، ولكن ثبت أنه عفا عنهم ﷺ.

ثم لما جاء وقت الصلاة، أمر الرسول ﷺ بلالاً أن يصعد فيؤذن علىٰ الكعبة، وأبو سفيان بن حرب وعتاب بن أسيد والحارث بن هشام جلوس في فناء الكعبة. فقال عتاب: لقد أكرم الله أسيداً ألا يكون سمع هذا.

أي إن والدي مات ولم يسمع الأذان، فيسمع منه ما يغيظه.

فقال الحارث: أما والله، لو أعلم أنه حقٌ لاتبعته. فقال أبو سفيان: أما والله ما أقول شيئاً لو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصباء. فخرج عليهم النبي ﷺ فقال: «قد علمت الذي قلتم»، ثم ذكر ذلك لهم([7]).

فالنبي ﷺ لا يعلم الغيب ولكنه الوحي من الله تبارك وتعالىٰ. فقال الحارث وعتاب: نشهد إنك لرسول الله، والله ما اطلع علىٰ هذا أحد كان معنا فنقول أخبرك.

ودخل رسول الله ﷺ دار أم هانئ أخت علي بن أبي طالب، فاغتسل وصلىٰ ثمان ركعات في بيتها، فقال بعضهم: هي سنة الفتح فاتخذها بعض القادة إذا فتحوا بلاداً سنة، وقال بعضهم هي صلاة الضحىٰ.

قالت أم هانئ لرسول الله: زعم ابن أمي علي أنه قاتل رجلاً أجرتُه: فلان بن هبيرة. فقال رسول الله: «قد أجَرْنا مَن أجرتِ يا أم هانئ»([8]). وفي رواية قالت: كنت أمّنت رجلين من أحمائي، فأراد علي قتلهما.

ولما دخل الرسول ﷺ المسجد جاء أبو بكر بأبيه يقوده، وكان أعمىٰ، فلما رآه الرسول ﷺ قال: «هلّا تركت الشيخ في بيته حتىٰ أكون أنا آتيه؟». فقال: هو أحق أن يمشي إليك من أن تمشي أنت إليه. فأجلسه ثم مسح الرسول ﷺ علىٰ صدره فقال: «أسلم تسلَم». فأسلم فقال رسول الله ﷺ: «غيروا الشيب ولا تقربوه السواد»([9]).

وهذه العائلة ــ عائلة أبي بكر ــ أسلم الجد وهو أبو قحافة والد أبي بكر فيكون صحابياً، وأبو بكر صحابي، وعبد الرحمن بن أبي بكر صحابي، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر أيضاً صحابي، وهذه العائلة الوحيدة التي فيها أربعة أجيال كلهم صحابة.

ويصدق هذا علىٰ أربعة آخرين، وهم عبد الله بن الزبير صحابي، أمه أسماء صحابية، جده أبو بكر صحابي، وجد أمه وهو والد أبي بكر الصديق صحابي كذلك.

 

([1])             الاستقسام بالأزلام: هو وضع النبال في علبة، ثم يخرج منها سهماً مكتوباً عليه: افعل أو سهماً مكتوب عليه لا تفعل.

([2])            يريد مفتاح الكعبة والسقاية.

([3])            أخرجه الطبراني في «المعجم الكبير» (11/120)، و«الأوسط» (1/155)، وانظر: السيرة لابن هشام (2/411).

([4])            «جوامع السيرة» (ص234).

([5])            واليوم نحن في سنة (1437هـ).

([6])            أخرجه البيهقي في «السنن» (18275).

([7])            «سيرة ابن هشام» (2/413).

([8])            أخرجه البخاري (358)، ومسلم (336).

([9])            أخرجحه أحمد (12635، 26956)، من حديث أسماء رضي الله عنها.