لابد أن نعلم أن الأرض لله، فإذا كان الأمر كذلك؛ فإن الله إنما خلق الناس علىٰ هذه الأرض ليعبدوه، قال تعالىٰ: ﴿وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56]. فرفض كثير من الناس أن يعبدوا الله، وسكنوا في أرضه، فأرسل الله عباداً له، وأمرهم أن يدعوهم إلىٰ الإسلام، فإن رفضوا فالجزية، فإن رفضوا أمرهم أن يقاتلوا أولئك القوم الذين جلسوا في أرضه وامتنعوا عن الدخول في دينه وعبادته سبحانه وتعالى، وامتنعوا عن دفع الجزية.

عند ذلك تهيأ الجيش الإسلامي للخروج، وأوصاهم النبي ﷺ، وَسَلَّم عليهم، فبكىٰ أحد قادة الجيش، وهو عبد الله بن رواحة رضي الله عنه، فقالوا: ما يبكيك؟ قال: أما والله ما لي حب للدنيا، ولا صبابة بكم([1])، ولكني سمعت رسول الله ﷺ يقرأ آية من كتاب الله يذكر فيها النار قال تعالىٰ: ﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا﴾ [مريم: 71] فكيف لي بالصدر([2]) بعد الورود؟

ودّعهم النبي ﷺ وودّعهم أصحابه الذين بقوا معه في المدينة، هنا قال عبد الله بن رواحة:

لكنني أسألُ الرحمنَ مغفرةً           

وضربةً ذات فَدْغٍ تَقْذِفُ الزبدا

أو طعنةً بِيَدَيْ حَرّان مُجْهِزةً          

                                         بِحَرْبة تنفذُ الأحشاءَ والكبدا

حتىٰ يُقال إذا مَرُّوا علىٰ جَدَثي([3])  

                                         أَرْشَدَ الله من غازٍ وقد رشدا

تحرك الجيش حتىٰ نزل منطقة يقال لها: «معان» من أرض الشام، فوصلتهم الأخبار أن هرقل نزل بمنطقة يقال لها: «مآب» في أرض البلقاء، في مئة ألف من الروم، وانضم إليهم مئة ألف من نصارىٰ العرب، المسلمون لم يتوقعوا أبداً أن يخرج لهم جيش بهذه الضخامة، فجلسوا في معان ليلتين يفكرون في أمرهم ويتشاورون، فقالوا: نكتب إلىٰ رسول الله، فنخبره بعدد عدونا، إما أن يمدّنا برجال، وإمّا أن يأمرنا فنمضي.

فقال عبد الله بن رواحة: يا قوم، والله إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون([4])، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقِوا فإنما هي إحدىٰ الحسنيين: إما ظهور وإما شهادة.

فاستقر الأمر علىٰ قول عبد الله بن رواحة، وما راسلوا النبي ﷺ، وذلك أن تلك الكلمة الملتهبة لعبد الله أثرت فيهم تأثيراً عظيماً، فاختفت من الصفوف مشاعر التردد، وقرروا أن يواجهوا القوم رضي الله عنهم.

فلما دنا العدو من المسلمين انحاز المسلمون إلىٰ مكان يقال له: «مؤتة»، فعسكروا هناك وتعبؤوا للقتال. فالتقىٰ الفريقان مئتا ألف مقابل ثلاثة آلاف، ولكنه الإيمان إذا هبّت رياحه جاء بالعجائب.

أخذ الراية زيد بن حارثة، وجعل يقاتل هو والمسلمون معه بضراوة وبسالة، فلم يزل زيدٌ يقاتل حتىٰ قُتل رضي الله عنه وخرّ صريعاً.

قال: سلمة بن الأكوع: غزوت مع زيد تسع غزوات كان النبي ﷺ يأمّره علينا. وقال النبي ﷺ: «دخلت الجنة فاستقبلتني جارية شابة، قلت: لمن أنت؟ قالت: لزيد بن حارثة»([5]).

وبعدما استشهد زيد أخذ الراية جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، وصار يقاتل قتالاً شديداً حتىٰ إذا أرهقه القتال قال:

يا حبذا الجنة واقترابها

طيبةٌ بارد شرابها

والروم رومٌ قد دنا عذابها

كافرةٌ بعيدة أنسابها

عليّ إن لاقيتها ضرابها

فصار يقاتل حتىٰ نزل عن فرسه فعقرها، وهو أول من عقر فرسه في الإسلام، وأمسك الراية رضي الله عنه، فقُطعت يمينه فأخذ الراية بشماله، فقطعت شماله، فاحتضن الراية بعضديه، فلم يزل رافعاً لها حتىٰ قُتل، فأبدله الله بجناحين في الجنة يطير بهما حيث شاء. ولذلك يقال له: جعفر الطيار.

وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما إذا سلم علىٰ عبد الله بن جعفر يقول له: السلام عليك يا ابن ذي الجناحين([6]). وكان يقال لجعفر كذلك: أبو المساكين، وقد كان هاجر الهجرتين: الحبشة والمدينة.

وأخرج البخاري في صحيحه([7]) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه وقف علىٰ جعفر في مؤتة وهو قتيل، قال: عددت به خمسين ما بين طعنة وضربة، ليس منها شيءٌ في دبره([8]). وقد مات جعفر وعمره ثلاثٌ وثلاثون سنة.

ثم استلم الراية من بعد استشهاد جعفر رضي الله عنه عبد الله بن رواحة، تقدّم بها فصار شيء من التردد فقال لنفسه يخاطبها:

أَقْسَمْتُ يا نفسُ لتنزِلِنّ

كارهةً أو لتطاوعنّ

إن أجلب الناسُ وشدوا الرنّه

ما لي أراكِ تكرهين الجنة

ثم نزل فأتاه ابن عمٍ له بعرقٍ من لحم([9])، فقال: شُدّ بهذا صُلْبَك. فأخذه من يده، فانتهس منه نهسة، ثم ألقاه من يده وأخذ سيفه وتقدم وقاتل حتىٰ قُتل والراية معه.

فتقدّم رجل من بني عجلان يقال له ثابت بن أرقم فأخذ الراية وقال: يا معشر المسلمين، اصطلحوا علىٰ رجل منكم. فلابد من أمير يأمر فيطاع، فقالوا: أنت. فقال: ما أنا بفاعل. فاصطلح الناس علىٰ خالد بن الوليد، فلما أخذ الراية قاتل قتالاً شديداً.

عن خالد قال: لقد انقطعت في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، ما بقي في يدي إلا صفيحة يمانية([10]).

وقد أخبر النبي ﷺ عمّا وقع، حيث كان جالساً علىٰ المنبر والصحابة حوله فقال: «أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذ جعفر فأصيب، ثم أخذ ابن رواحة فأصيب»، وعيون النبي ﷺ تذرفان من الدموع، فهم ثلاثة من صحابته، فزيد مولاه وكان يقال له: زيد بن محمد، وجعفر ابن عمه، وعبد الله شاعره ومن كبار الخزرج.

قال النبي ﷺ: «حتىٰ أخذ الراية سيف من سيوف الله، حتىٰ فتح الله عليهم»([11]). وقد فتح الله عليهم في هذه المعركة العظيمة بأنه لم يقتل من المسلمين إلا عدد قليل، والذين قتلوا من الكفار أكثر.

ولما أخذ خالد الراية صمد طوال النهار حتىٰ أظلم الليل، فتوقف القتال، فقام بخطة عجيبة رضي الله عنه، أخذ الميمنة فجعلها ميسرة، وأخذ الميسرة فجعلها ميمنة، والمقدمة مؤخرة وجعل المؤخرة مقدمة.

وقيل: إنه أرسل مجموعة يثيرون الغبار من بعيد عند الفجر، فلما أصبح الناس، الروم علىٰ ما كانوا عليه، فالذين كانوا يقاتلون في الميمنة تغيرت عليهم الأوجه، وكذلك الذين في الميسرة والمقدمة، كما أنهم يرون غباراً من بعيد، فعلموا يقيناً أن المسلمين جاءهم مدد، فقالوا في أنفسهم: إذا كان العدد بتلك القلة ما استطعنا، فكيف وقد جاءهم المدد؟

عند ذلك تراجع الروم عن القتال فتراجع خالد، وانحازوا إلىٰ بلادهم، وانحاز خالد بمن معه إلىٰ المدينة. فهذا هو النصر، أنه استطاع أن ينقذ المسلمين من قتل مُحَتّم.

وقد قُتل في هذه المعركة من المسلمين: زيد، جعفر، ابن رواحة، مسعود ابن الأسود، وهب بن سعد ابن أبي السرح، عبّاد بن قيس، الحارث بن النعمان، سراقة بن عمرو، أبو كليب، جابر بن عمرو، عمرو بن سعد بن الحارث، وعامر بن سعد بن الحارث، وعددهم اثنا عشر.

وفي هذه المعركة ظهرت شجاعةٌ وبسالةٌ بلغت حداً لم تعرفه أمة من الأمم، وهذه الروح الإيمانية التي كانت عندهم أعطتهم إقداماً عجيباً حقّر أمامهم كبرياء هذه الأمم التي كانت تُعْرف بالعدد والكثرة. وكل هذا يؤكد أن المسلمين من طراز آخر غير ما عرفه الناس كلهم. وبعد هذه المعركة دخل في الإسلام بعض قبائل العرب، منهم: بنو سليم وأشجع وغطفان وفزارة. ورجع المسلمون إلىٰ المدينة، ففرح المسلمون بقدومهم.

وأما الرواية التي تقول: إنهم لما رجعوا استقبلهم أهل المدينة يقولون لهم: يا فُرّار، يا فُرّار. فقال النبي ﷺ: «بل هم الكُرّار». فهي رواية ضعيفة لا تصح([12]).

 

([1])             غير حريص أن أجلس معكم.

([2])            الخروج.

([3])            علىٰ قبري.

([4])            الشهادة.

([5])            أخرجه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (19/371).

([6])            أخرجه البخاري (3809، 4264).

([7])            «صحيح البخاري» (4260).

([8])            أي ظهره، كلها في صدره.

([9])            عظم فيه لحم.

([10])          أخرجه البخاري (4265).

([11])           أخرجه البخاري (4262).

([12])          أخرجه الواقدي في «المغازي» (2/764).