أعظم حرب مخيفة خاضها المسلمون في حياة رسول الله ﷺ، وكانت في أول السنة الثامنة من الهجرة في جمادىٰ الأولىٰ، قريباً من بيت المقدس بثمانين كيلو متراً.

سبب هذه المعركة: إن رسول الله ﷺ بعث الحارث بن عمير بكتابه إلىٰ عظيم بُصرىٰ، فعرض له في الطريق شرحبيل بن عمرو الغساني، وكان عاملاً علىٰ البلقاء من أرض الشام من قِبَلِ قيصر، فأخذه وأوثقه ثم قدمه فضرب عنقه.

والأصل في ذلك أن هذا رسول، والرسل لا تقتل مهما كان.

عند ذلك جهّز إليهم النبي ﷺ جيشاً قوامه ثلاثة آلاف مقاتل، وهذا أكبر جيش إسلامي لم يجتمع قبله مثله إلا في الأحزاب قريباً من هذا العدد، وأمّر رسول الله ﷺ علىٰ هذا الجيش زيد بن حارثة، وقال: «إن قُتل زيد فجعفر، وإن قُتل جعفر، فعبد الله بن رواحة»([1]). وعقد لهم لواءً أبيض، ودفعه إلىٰ زيد بن حارثة، ويُسمىٰ بعث الأمراء؛ لأنه رَتَّب فيه ثلاثة أمراء، ثم أوصاهم ﷺ بما كان يوصي به الجيوش إذا خرجت.

عن بريدة رضي الله عنه قال: كان رسول الله ﷺ إذا أمّر أميراً علىٰ جيشٍ أو سرية أوصاه في خاصته بتقوىٰ الله ومن معه من المسلمين خيراً، ثم قال: «اغزوا بسم الله، في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا([2])، ولا تغدروا، ولا تُمثّلوا([3])، ولا تقتلوا وليداً، فإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلىٰ ثلاث خصال، فأيتهنّ ما أجابوك فاقبل منهم، وكُفّ عنهم». وهذا يبين أن النبي ﷺ ليس حريصاً علىٰ القتال، ولكنه يُضطر إليه اضطراراً.

قال: «الأولىٰ: ادعهم إلىٰ الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكُف عنهم، ثم ادعهم إلىٰ التحول من دارهم إلىٰ دار المهاجرين([4])، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك، فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما علىٰ المهاجرين، فإن أَبَوا أن يتحولوا منها ــ أي أن يهاجروا ــ فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين([5])، يجري عليهم حكم الله الذي يجري علىٰ المؤمنين، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء»([6])؛ لأنهم رفضوا الهجرة.

قال: «ولا يكون لهم شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين.

الثانية: إن هم أبوا، فسلهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم.

الثالثة: إن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم. فإن حاصرت أهل حصن، فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه، فلا تجعل لهم ذمة الله ولا ذمة نبيه، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك، فإنكم إن تُخفروا ذممكم وذمم أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله. وإن حاصرت أهل حصن، فأرادوك أن تنزلهم علىٰ حكم الله، فلا تنزلهم علىٰ حكم الله ولكن أنزلهم علىٰ حكمك، فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا»([7]).

وليس في هذا أي تعارض مع قول الله تبارك وتعالىٰ: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي ٱلدِّينِ﴾ [البقرة: 256]، فنحن لا نقاتل الناس للدخول في الإسلام، ولكن نقاتل إذا رفضوا الإسلام ورفضوا الجزية، فالقتال وسيلة وليس غاية.

 

([1])             أخرجه البخاري (4013)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

([2])            لا تأخذوا شيئاً من الغنيمة قبل تقسيمها.

([3])            تشويه القتلىٰ من قطع الأيدي أو الآذان أو ما شابه ذلك.

([4])            في حال إسلامهم أن يهاجروا إلىٰ المدينة وهذا كان قبل فتح مكة.

([5])            البادية.

([6])            الفرق بين الغنيمة والفيء: أن الغنيمة هي التي تؤخذ من قتال الكفار، والفيء هو الذي يؤخذ من الكفار من غير قتال.

([7])            أخرجه مسلم (1733).