مرّ بنا أن النبي ﷺ وأصحابه صُدوا عن المسجد الحرام، حتىٰ تمّ صلح الحديبية، قال أبو عبد الله الحاكم: «تواترت الأخبار أنه ﷺ لما هلّ ذو القعدة أمر أصحابه أن يعتمروا قضاء عمرتهم، وأن لا يتخلف منهم أحد شهد الحديبية، فخرجوا إلا من استشهد، وخرجه معه آخرون معتمرين، فكانت عدتهم ألفين سوىٰ النساء والصبيان»([1]).

وساق معه ﷺ ستين بَدَنة([2])، وأحرم من ذي الحليفة وخرج مستعداً بالسلاح والمقاتلة، خشية أن يقع من قريش الغدر، فلما بلغ يأجج([3]) وضع الأدوات كلها([4]) والحَجَفَ والمِجانّ([5]) والنبل والرماح، وخلّف عليها أوس بن خولة الأنصاري في مئتي رجل، ودخل ﷺ بسلاح الراكب والسيوف في القِرَب([6])، وكانت قريش قد بعثت مِكرَز بن حفص في نفرٍ من قريش فقال له: يا محمد ما عُـرفت صغيراً ولا كبيراً بالغدر، تدخل بالسلاح في الحرم علىٰ قومك؟! وقد شرطت ألا تدخل إلا بسلاح المسافر، فقال النبي ﷺ: «إني لا أدخل عليهم السلاح». فقال مكرز: هذا الذي تعرف به البرُّ والوفاء([7]).

وهذه شهادة من أحد أعداء النبي ﷺ له، وهي شهادات تترىٰ وهي كثيرة: شهدوا له بالصدق، والأمانة، والبر، والوفاء.

وكان رسول الله ﷺ عند الدخول راكباً علىٰ ناقته القصواء، فخيله ونوقه والحمير والبغال كلها كان يسميها، فمن خيل النبي ﷺ ما جُمع في بيت شعر:

والخيل سكبٌ لُحَيْفٌ سَبْحَةٌ ضَرِبٌ                   لِزازُ مُرْتَجِزٌ وَردٌ لها أسرار([8])

أما من البغال؛ فكان عند النبي ﷺ بغلة سماها «دُلْدُلْ» وله من الحمير «عُفير»، وله من الإبل «القصواء» و«العضباء»، وهذه الناقة لها قصة مشهورة وذلك أنها كانت سريعة لا تُسبق فجاء أعرابي فسابقها بناقته فَسَبقَها، فشقّ ذلك علىٰ المسلمين، فقال رسول الله ﷺ: «إن حقاً علىٰ الله ألا يرفع من الدنيا شيئاً إلا وضعه»([9]).

دخل النبي ﷺ راكباً علىٰ ناقته القصواء والمسلمون متوشحو السيوف محدقون([10]) برسول الله ﷺ يُلَبُّون، وخرج المشركون من مكة إلىٰ جبل في شمال مكة يقال له: «قعيقعان». وقال بعضهم لبعض: يقدم عليكم وفدٌ وهنتهم حُمَّىٰ يثرب، فالنبي ﷺ كأنه بلغه هذا أو استشعره، فأمر أصحابه أن يرملوا الأشواط الثلاثة الأولىٰ([11])، وأن يمشوا ما بين الركنين؛ لأن أهل مكة يرونهم إذا طافوا من الحجر إلىٰ الركن اليماني، أما بين الركن اليماني والحجر فلا يرونهم، وذلك أن النبي ﷺ كان يحب مكايدة قريش، وصار الرمَل بعد ذلك سنة ليس فقط في عمرة القضاء، بل سنة دائمة؛ لأنه ثبت عن النبي ﷺ أنه لما حج رمل، ولكن في البيت كله.

دخل النبي ﷺ مكة وعبد الله بن رواحة بين يدي النبي ﷺ وكان شاعره، وشعراء النبي ﷺ ثلاثة هم: حسان بن ثابت، كعب بن مالك، وعبد الله بن رواحة.

فكان عبد الله بن رواحة متوشحاً سيفه يقول:

خلّوا بَنِي الكفار عن سبيله             

خلّوا فَكُلُّ الخير في رسوله

قد أَنْزَل الرحمنُ في تنزيله   

                                         في صُحُف تتلىٰ عَلىٰ رسوله

يا ربِّ إني مؤمنٌ بِقِيلِه          

                                                  إني رأيتُ الحَقَّ في قَبُوله

بأن خيرَ القتلِ في سبيلهِ       

                                            اليومَ نَضْرِبُكم علىٰ تنزيله

ضرباً يزيل الهامَ عن مقيله

                                             ويُذْهِلُ الخليلَ عن خليلِه

وجاء عمر فقال: يا ابن رواحة بين يدي رسول الله ﷺ، وفي حرم الله تقول الشعر! فقال له النبي ﷺ: «خلِّ عنه يا عمر، فلهو أسرع فيهم من نضح النبل»([12]). أي هذا الشعر أشد عليهم من النبال.

فلما رمل النبي ﷺ ثلاثة الأشواط الأولىٰ ومن معه، ورآهم المشركون قالوا: هؤلاء قد زعمتم أن الحمىٰ قد وهنتهم؟! فهؤلاء أجلد من كذا وكذا.

فلما فرغ من السعي وكان قد جعل الهدي الذي ساقه ﷺ([13]) عند المروة قال: «هذا المنحر، وكل فجاج مكة منحر»([14])، فنحر ﷺ عند المروة وحلق هناك.

وأقام رسول الله ﷺ في مكة ثلاثاً، فلما أصبح من اليوم الرابع أتوا علياً فقالوا: قل لصاحبك اخرج عنّا، فقد مضىٰ الأجل وذلك؛ لأنهم اتفقوا مع النبي ﷺ أنه يعتمر لمدة ثلاثة أيام، فخرج النبي ﷺ ونزل في سَرِف([15])، وأقام فيها.

 

([1])             نقله عنه الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» (7/500).

([2])            ناقة.

([3])            اسم مكان.

([4])            وضع السلاح.

([5])            التروس وما شابهها.

([6])            في أغمادها.

([7])            أخرجه الواقدي «المغازي» (1/734).

([8])            هذه الأسماء لها أسرار.

([9])            أخرجه البخاري (6501)، من حديث أنس رضي الله عنه.

([10])          ملتفون.

([11])           الرمل: وهو المشي السريع.

([12])          أخرجه الترمذي (2847) نحوه.

([13])          ستون بدنة.

([14])          أخرجه بنحوه مسلم (1218)، من حديث جابر رضي الله عنه.

([15])          مكان قريب من مكة.