وفي هذه الغزوة روىٰ لنا جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قصةً أخرىٰ([1]) فقال: خرجتُ مع رسول الله ﷺ إلىٰ غزوة ذات الرقاع، من نخل([2]) علىٰ جمل لي ضعيف، فلما قفل رسول الله ﷺ من هذه الغزوة جَعَلَت الرفاق تمضي، وجَعَلْتُ أتخلف، حتىٰ أدركني رسول الله ﷺ فقال: «ما لك يا جابر؟». قلت: يا رسول الله أبطأ بي جملي هذا، قال: «أنخه». قال: فأنخته، وأناخ رسول الله ﷺ ثم قال: «أعطني هذه العصا من يدك أو اقطع عصاً من شجرة». قال: ففعلت. فأخذها رسول الله ﷺ فنخسه بها نخسات([3])، ثم قال: «اركب». قال: ركبت، فخرج ــ والذي بعثه بالحق ــ يواهق ناقته مواهقة([4]).

قال: وتحدثت مع رسول الله ﷺ فقال: «أتبيعني جملك هذا يا جابر؟». قال: بل أهبه لك. قال: «لا، ولكن بعْنِيه». قال: قلت فَسُمْنِيْه([5])؟ فقال رسول الله ﷺ: «قد أخذته بدرهم». قال جابر: لا، إذاً تغبنني يا رسول الله. قال: «فبدرهمين». قال: قلت: لا. فلم يزل رسول الله ﷺ يرفع لي حتىٰ بلغ أوقية فقلت: قد رضيت، هو لك يا رسول الله. قال ﷺ: «أخذته».

قال جابر: ثم قال رسول الله: «يا جابر هل تزوجت؟». قال: قلت: نعم يا رسول الله. قال: «أثيباً أم بكراً؟». قال: قلت: بل ثيباً. قال: «أفلا جارية تلاعبها وتلاعبك؟».

وهذا يبين لنا أن الأفضل أن يتزوج بكراً إن تيسر له ذلك.

قال: قلت: يا رسول الله إنَّ أبي أصيب يوم أحد وترك بناتاً لي سبعاً، فنكحت امرأة جامعة تجمع رؤوسهن فتقوم عليهن.

وهذا من الإيثار؛ لأنه آثر أخواته علىٰ نفسه رضي الله عنه.

فقال له النبي ﷺ: «أصبت إن شاء الله، أما إن لو جئنا صراراً([6]) أمرنا بجزورٍ فنحرت، فأقمنا عليها يومنا ذلك، وسمعت بنا فنفضت نمارقها»([7]). قال: فقلت: والله يا رسول الله ما لنا نمارق. قال: إنّها ستكون، فإذا أنت قدمت فاعمل عملاً كيساً.

فلما أمسىٰ رسول الله ﷺ دخل ودخلنا، قال: فحدثت المرأة الحديث وما قال لي رسول الله ﷺ قالت: فدونك، فسمعٌ وطاعة، فلمّا أصبحت أخذت برأس الجمل، فأقبلت به حتىٰ أنخته علىٰ باب رسول الله ﷺ، ثم جلست في المسجد قريباً منه. وخرج رسول الله ﷺ فرأىٰ الجمل فقال: «ما هذا؟». قالوا: يا رسول الله هذا جمل جاء به جابر. قال: «فأين جابر؟»، فدُعيت له.

 فقال لي: «يا ابن أخي، خذ برأس جملك فهو لك»، ثم دعا بلالاً فقال: «اذهب بجابر فأعطه أوقية». قال: فذهبت معه فأعطاني أوقية، وزادني شيئاً يسيراً. قال: فوالله مازال ينمي عندي ويُرىٰ مكانه من بيننا حتىٰ أُصيب أمس فيما أُصيب لنا. يعني يوم الحرة سنة (63هـ).

وفي رواية: أن جابراً اشترط علىٰ النبي ﷺ أن يركبه إلىٰ المدينة.

هذا الحديث فيه فوائد كثيرة، فمنها:

أولاً: أن النبي ﷺ اشترىٰ الجمل من جابر، فساومه وأرضاه بالسعر، وفيه جواز المساومة.

ثانياً: أن النبي ﷺ من أرفق الناس بأصحابه، وذلك أنه تأخر حتىٰ أدركه جابر بن عبد الله.

ثالثاً: فيه حب الصحابة للنبي ﷺ، وذلك عندما قال النبي ﷺ لجابر: «بعنيه». فقال جابر: بل أهبه لك.

رابعاً: استحباب الزواج من البِكر، كما أمر النبي ﷺ جابراً بذلك.

خامساً: فيه جواز الزواج بالثيب كذلك.

سادساً: بيان كرم النبي ﷺ، وذلك أنه بعدما اشترىٰ البعير ردّه إلىٰ جابر رضي الله عنه هبة.

سابعاً: أن جابر بن عبد الله اشترط علىٰ النبي ﷺ لما اشترىٰ منه الجمل أن يركبه إلىٰ أن يصل به إلىٰ المدينة، واستدل أهل العلم بهذا علىٰ جواز الاشتراط أي بيع وشرط، والله أعلم.

 

([1])             أخرجه أحمد (15004، 15026).

([2])            أي من منطقة نخل.

([3])            أي ضربه ضرباً خفيفاً.

([4])            أي يقاربها.

([5])            أي قل السعر.

([6])            اسم لمكان.

([7])            وزعت الوسائد.