وهي بعد صلح الحديبية بأشهر قليلة، ذكرنا أن الله تبارك وتعالىٰ أنزل سورة الفتح كاملة علىٰ النبي ﷺ بعد الحديبية مباشرة، وقد أنزل الله تبارك وتعالىٰ في تلك السورة قوله: ﴿ وَعَدَكُمُ ٱللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ﴾  [الفَتْح: 20]، وهذه التي عجّلها هي خيبر.

قدم الرسول ﷺ المدينة في ذي الحجة، فأقام بها حتىٰ سار إلىٰ خيبر في المحرّم، فنزل رسول الله ﷺ في الرجيع([1]).

قال سلمة ابن الأكوع: خرجنا مع رسول الله ﷺ إلىٰ خيبر فسرنا ليلاً، فقال رجل من القوم لعامر بن الأكوع: ألا تسمعنا من هنيهاتك([2]). وكان عامر رجلاً شاعراً، فنزل يحدو بالقوم يقول:

اللهم لولا أنت ما اهتدينا  

                                                   ولا تَصَدَّقنا ولا صلينا

فاغفر فداءً لك ما اقتفينا   

                                                 وثبّت الأقدامَ إن لاقينا

وأنزِلَنْ سكينةً علينا

                                                     إنّا إذا صِيْحَ بنا أتينا

وبالصياح يعوّلوا علينا       

                                                     وإن أرادوا فتنة أبينا

سمع الرسول ﷺ كما سمع غيره هذا النشيد، فقال رسول الله ﷺ: من هذا السائق؟ قالوا: هذا عامر. فقال رسول الله ﷺ: «رحمه الله». فقال رجل من القوم: وجبت يا رسول الله، لولا أمتعتنا به.

أي علموا من قول النبي ﷺ: «رحمه الله» أنه سيموت في هذه المعركة، قال: فأتينا خيبر فحاصرناهم حتىٰ أصابتنا مخمصة شديدة([3])، فلما أمسوا أوقدوا نيراناً كثيرة، فقال رسول الله ﷺ: «ما هذه النيران؟ وعلىٰ أي شيء توقدون؟». قالوا: علىٰ لحم. قال: علىٰ أي لحم؟ قالوا: علىٰ لحم حمُر إنسية. فقال رسول الله ﷺ: «أهريقوها واكسروها». فقال رجل: يا رسول الله أو نهريقها ونغسلها؟ قال: «أو ذاك».

فلما تصافّ القوم ــ من الغد ــ للقتال خرج مرحبٌ اليهودي وهو يخطر بسيفه يقول:

قد علمتْ خيبرُ أني مَرْحَبُ  

                 شاكِ السلاحِ بطل مُجَرَّبُ

            إذا الحروب أقبلت تَلَهَّبُ

فنزل إليه عامر المنشد قريباً وهو يقول:

قد علمت خيبر أني عامر      

                                         شاك السلاح بطل مغامر

[وهذه كانت عادتهم في السابق قبل المعركة تبدأ المبارزة كما ذكرنا في بدر لما تبارز حمزة وعلي وأبو عبيدة بن الحارث مع الوليد بن عتبة وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة، وكما تبارز علي بن أبي طالب مع عمرو بن عبد ود، والزبير مع كبش الكتيبة، فكذلك هنا خرج هذا الرجل للمبارزة].

فاختلفا ضربتين فوقع سيف مرحب في ترس عامر، فذهب عامر يسْفُل عليه، [أي: يريد أن يضربه بالسيف من الأسفل]؛ وكان سيف عامر فيه قصر فرجع عليه ذباب سيفه، فأصاب عين ركبته فمات منه. فقال سلمة للنبي ﷺ: زعموا أن عامراً حبط عمله([4]). فقال النبي ﷺ: «كذب من قال ذلك، إن له أجرين»، وجمع ﷺ بين إصبعيه وقال: «إنه لجاهِدٌ مُجاهِدٌ قَلَّ عربي مشىٰ بها مثله»([5]).

وكان النبي ﷺ لما قدم صلىٰ بها الصبح، وركب المسلمون، فخرج أهل خيبر بمساحيهم ومكاتلهم ــ أي أدوات الزراعة ــ لا يشعرون بمجيء النبي ﷺ وأصحابه إليهم، فلما رأوا الجيش قالوا: محمد والله محمد والخميس([6])، ثم رجعوا هاربين إلىٰ حصونهم، فقال النبي ﷺ: «الله أكبر، خربت خيبر، الله أكبر، خربت خيبر، إنّا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين»([7]).

فلما دنا النبي ﷺ وأشرف علىٰ خيبر قال: «قفوا» فوقف الجيش، ثم قال: «اللَّهم رب السماوات السبع وما أظللن، ورب الأرضين السبع وما أقللن، ورب الشياطين وما أضللن، فإنّا نسألك خير هذه القرية وخير أهلها وخير ما فيها، ونعوذ بك من شر هذه القرية وشر أهلها وشر ما فيها، أقدموا بسم الله»([8]).

ولما كانت ليلة دخول خيبر وبعد مقتل عامر بن الأكوع؛ قال رسول الله ﷺ: «لأعطينّ الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، يفتح الله علىٰ يديه». فباتوا يدوكون أيهم يُعطاها. [أي يتكلمون في هذا الأمر كل واحد يتمنىٰ أن يكون هو ذاك الرجل].

فلما أصبح الناس غدوا علىٰ رسول الله ﷺ كلهم يرجو أن يُعطاها، فقال ﷺ: «أين علي بن أبي طالب؟» فقالوا: يا رسول الله هو يشتكي عينيه. قال: «فأرسلوا إليه» فأتي به فبصق رسول الله ﷺ في عينيه، ودعا له فبرئ، حتىٰ كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية فقال علي بن أبي طالب: أقاتلهم حتىٰ يكونوا مثلنا. قال: «انفذ علىٰ رسلك، حتىٰ تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلىٰ الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير من أن يكون لك حمر النعم([9])»([10]).

فخرج مرحب وهو يقول أي كعادته لما خرج في المرة الأولىٰ:

قد علمت خيبر أني مرحب              

شاك السلاح بطل مجرب

إذا الحروب أقبلت تلهب

فبرز إليه علي وهو يقول:

أنا الذي سمتني أمي حيدرة([11])     

                 كليث غابات كريه المنظرة

      أُوفِيهُمُ بالصاعِ كَيْلَ السَنْدَرة

فضرب مرحباً ففلق هامته ثم كان الفتح([12]).

وجاء في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن محمد بن مسلمة هو الذي قتل مرحباً، قال جابر في حديثه: خرج مرحب اليهودي من حصن خيبر قد جمع سلاحه وهو يرتجز ويقول: من يبارز؟ فقال رسول الله ﷺ: «من لهذا؟». فقال محمد بن مسلمة: أنا له يا رسول الله، أنا والله الموتور الثائر قتلوا أخي بالأمس([13]). فقال ﷺ: «قم إليه، اللَّهم أعنه عليه»، فلما دنا أحدهما من صاحبه دخلت بينهما [شجرة أي صار كل واحد خلف هذه الشجرة]، فجعل كل واحد منهما يلوذ بها من صاحبه كلما لاذ بها منه اقتطع صاحبه بسيفه من دونه منها، حتىٰ برز كل واحد منهما لصاحبه، وصارت الشجرة بينهما كالرجل القائم، ما فيها فنن أي الأغصان، كلها قطّعت، ثم حمل مرحب علىٰ محمد فضربه فاتقاه بالدرقة ــ أي الدرع الذي يمسكه بيده ــ فوقع سيفه فيها وضربه محمد بن مسلمة فقتله([14]).

ولا يهم من قتل مرحباً اليهودي، المهم أنه قتل، ولكن رواية مسلم أصح؛ لأنها في «صحيح مسلم» فإنها تقدّم.

وفي هذه الغزوة جاء رجل من الأعراب إلىٰ النبي ﷺ فآمن به واتبعه، فقال للرسول ﷺ: أهاجر معك. فأوصىٰ به بعض أصحابه، فلما انتهت غزوة خيبر غنم رسول الله ﷺ أموالاً كثيرة فقسمها بين أصحابه وللأعرابي؛ لأنه شارك، قال: أعطوه لفلان كان يرعىٰ الإبل فلما جاء الرجل أعطوه وقالوا له: هذا حقك. فقال الرجل: ما هذا؟ قالوا: قسم قسمه لك رسول الله ﷺ. فأخذه الأعرابي وجاء إلىٰ النبي ﷺ فقال: ما هذا يا رسول الله؟ قال: «قسم قسمته لك». قال: يا رسول الله ما علىٰ هذا اتبعتك، ولكن اتبعتك علىٰ أن أُرمىٰ هاهنا، وأشار إلىٰ حلقه بسهم، فأموت وأدخل الجنة. فقال ﷺ: «إن تصدق الله يصدقك»، ثم نهض ﷺ إلىٰ قتال العدو، فأُتي بالأعرابي إلىٰ النبي ﷺ وهو مقتول فقال ﷺ: «أهو هو؟». قالوا: نعم يا رسول الله. قال: «صدق الله فصدقه»، فكفنه النبي ﷺ في جبّته ثم قدمه فصلىٰ عليه، وكان من دعائه ﷺ أنه قال: «اللَّهم هذا عبدك خرج مهاجراً في سبيلك قتل شهيداً، وأنا عليه شهيد»([15])، فهذه شهادة عظيمة من نبي عظيم ﷺ.

وعن ابن عمر رضي الله عنهما([16]) أن رسول الله ﷺ قاتل أهل خيبر حتىٰ ألجأهم إلىٰ قصرهم، فغلب علىٰ الزرع والنخل والأرض، فصالحوه علىٰ أن يَجْلوا منها ولهم ما حملت ركابهم ولرسول الله ﷺ الصفراء([17]) والبيضاء([18])، واشترط عليهم ألّا يكتموا ولا يغيّبوا شيئاً، فإن فعلوا فلا ذمّة لهم ولا عهد.

قال عبد الله بن عمر: فغيّبوا مسكاً فيه مال وحلي لحيي بن أخطب وكان احتمله معه إلىٰ خيبر حين أُجليت بنو النضير، فقال رسول الله ﷺ لعم حيي بن أخطب: «ما فعل مسك حيي الذي جاء به من النضير؟». قال: أذهبته النفقات والحروب يا رسول الله. فقال ﷺ: «العهد قريب، والمال أكثر من ذلك». فشك النبي ﷺ في أنهم قد غيّبوا شيئاً، فأرسله النبي ﷺ إلىٰ الزبير فمسّه بعذاب([19]) حتىٰ يعترف.

وهذا يدل علىٰ أنه إذا كانت ريبة وشك في أنه كاذب أو سارق أو قاتل فلا بأس أن يُمس بعذاب حتىٰ يعترف.

فمسّه بعذاب فقال: إنه كان قبل ذلك قد دخل خربة فقال: قد رأيت حيياً يطوف بخربة، فذهبوا وطافوا فوجدوا المسك في الخربة.

فقتل رسول الله ابني أبي الحقيق وأحدهما زوج صفية بنت حيي بن أخطب، وسبىٰ الرسول ﷺ نساءهم وذراريهم، وقسم أموالهم بالنكث الذي نكثوا، لأنهم نكثوا العهد، وأراد أن يجليهم منها، فقالوا: يا محمد دعنا نكون في هذه الأرض نصلحها ونقوم عليها، فنحن أعلم بها منكم.

ولم يكن لرسول الله ﷺ ولا لأصحابه غلمان يقومون عليها، فأعطاهم خيبر علىٰ أن لهم الشطر من كل زرع ومن كل ثمر ما بدا لرسول الله أن يقرّهم علىٰ ذلك([20]). وأخذ النبي ﷺ في هذه الغزوة صفية بنت حيي بن أخطب سبياً، ثم أعتقها وتزوجها، وجعل عتقها مهرها([21])، فصارت من أمهات المؤمنين.

 

([1])             وادٍ بين خيبر وغطفان.

([2])            يعني من كلامك الطيب.

([3])            جوع شديد.

([4])            لأنه قتل نفسه.

([5])            أخرجه البخاري (4196).

([6])            أي الجيش.

([7])            أخرجه البخاري (371)، ومسلم (1365).

([8])            أخرجه النسائي في «السنن الكبرى» (10304)، وهذه الرواية في إسنادها كلام.

([9])            الإبل الحمراء.

([10])          أخرجه البخاري (2942)، ومسلم (2406).

([11])           لما ولد علي سمته أمه أسداً؛ لأن جده من أمه اسمه أسد، فغيره أبو طالب وسماه علياً، وحيدرة اسم من أسماء الأسد.

([12])          أخرجه مسلم (1807).

([13])          يعني محمود بن مسلمة، وكان قتل بخيبر.

([14])          أخرجه أحمد (15134)، وإسناده صحيح.

([15])          أخرجه النسائي (1952).

([16])          أخرجه أبو داود (3006).

([17])          الذهب.

([18])          الفضة.

([19])          أي: ضربه.

([20])         أخرجه أبو داود (3006).

([21])          أخرجه البخاري (947)، ومسلم (1045)، من حديث أنس رضي الله عنه.