هذه الهدنة في ظاهرها إجحاف للنبي ﷺ ومن معه، ولكن ليس الأمر كذلك، يقول ابن القيم رحمه الله([1]) في الإشارة إلىٰ بعض الحكم الذي تضمنتها هذه الهدنة: «هي أكبر وأجل من أن يحيط بها إلا الله جلّ وعلا الذي أحكم أسبابها، ووقعت الغاية علىٰ الوجه الذي اقتضته حكمته سبحانه وتعالى:

منها: أنها كانت مقدمة بين يدي الفتح الأعظم الذي أعز الله به رسوله وجنده، ودخل الناس به في دين الله أفواجاً فكانت هذه الهدنة باباً له ومفتاحاً ومؤذناً بين يديه.

ومنها: أن هذه الهدنة كانت من أعظم الفتوح، فإن الناس أمن بعضهم بعضاً واختلط المسلمون بالكفار، وبادؤوهم بالدعوة، وأسمعوهم القرآن، وناظروهم علىٰ الإسلام جهرة آمنين، وظهر ما كان مختفياً بالإسلام، ودخل فيه في مدة الهدنة من شاء الله أن يدخل، ومن أشهر من دخل في الإسلام في هذه المدة خالد بن الوليد، عمرو بن العاص، وغيرهما من الصحابة.

ومنها: ما سبّبه الله سبحانه وتعالى للمؤمنين من زيادة الإيمان والإذعان والانقياد علىٰ ما أحبوا وكرهوا، وما حصل لهم في ذلك من الرضا بقضاء الله تبارك وتعالىٰ وتصديق موعوده.

ومنها: أن النبي ﷺ تفرّغ للدعوة إلىٰ دين الله تبارك وتعالىٰ، فصار ﷺ يرسل رسله، فأرسل إلىٰ هرقل وقيصر، وأرسل إلىٰ النجاشي والمقوقس، وإلىٰ غيرهم من رؤوس القبائل؛ كلهم يدعوهم إلىٰ الإسلام.

 

([1])             «زاد المعاد» (3/275 ــ 281).