صلح الحديبية سنة (6 هـ)
13-03-2023
لما رجع الأحابيش قام رجل من قريش اسمه مِكرز بن الحفص، فقال: دعوني آته.
وهذا يبين لنا أن قريشاً خائفة من الحرب، وكل فترة يرسلون رجلاً لكي يكلم النبي ﷺ.
فلما أشرف علىٰ النبي ﷺ وأصحابه قال النبي ﷺ: «هذا مكرز وهو رجل فاجر»، فجعل مكرز يكلم النبي ﷺ، فبينما هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو، فلما جاء سهيل بن عمرو قال النبي ﷺ: «قد سَهُل لكم من أمركم».
وهذا من باب التفاؤل بالأسماء الحسنة، فبنىٰ النبي ﷺ سهالة الأمر علىٰ مقدمتين:
الأولىٰ: ما كان يعرفه من سهيل.
والثانية: اسم سهيل من السهولة.
فجاء سهيل فقال النبي ﷺ: «هات اكتب بيننا وبينكم كتاباً»، فدعا النبي ﷺ الكاتب ــ وهو علي بن أبي طالب ــ، فقال: اكتب «بسم الله الرحمن الرحيم». فقال سهيل: أما الرحمن فما أدري ما هي، ولكن اكتب باسمك اللَّهم، كما كنت تكتب.
وفي بعض الطرق: اكتب كما كان يكتب آباؤك. وفي بعض طرق هذا الحديث أن علياً كتب بسم الله الرحمن الرحيم. فقال: امحها. فقال المسلمون: والله ما نكتب إلا بسم الله الرحمن الرحيم، فقال النبي ﷺ: «اكتب باسمك اللَّهم»، ثم قال النبي ﷺ: «هذا ما قاضىٰ عليه محمد رسول الله». قال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب محمد بن عبد الله. فقال النبي ﷺ: «والله إني لرسول الله وإن كذبتموني، اكتب محمد بن عبد الله». فقال علي بن أبي طالب: لا أمحوها. فقال النبي ﷺ: «امحها». فقال: لا أمحوها.
وهذا تعظيماً لاسم النبي ﷺ. وفي بعض الطرق أن الرسول ﷺ قال: «ضع يدي عليها»، فمحاها؛ لأنه ما كان يقرأ، فقال النبي ﷺ: «علىٰ أن تخلّوا بيننا وبين البيت فنطوف به».
فقال سهيل: والله لا تتحدث العرب أنّا أُخذنا ضُغْطَةً، ولكن ذلك من العام المقبل. وقال: وعلىٰ أنه لا يأتيك منا رجل وإن كان علىٰ دينك إلا رددته إلينا.
فقال المسلمون: سبحان الله! كيف يُرد إلىٰ المشركين وقد جاء مسلماً؟ فبينما هم كذلك إذ دخل أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده وهو مسلم، وقد قيده أبوه في بيته. فرآه أبوه حين رمىٰ بنفسه بين أظهر المسلمين. فقال سهيل: هذا يا محمد أول من أقاضيك عليه أن ترده إليَّ. فقال النبي ﷺ: «إنّا لم نقض الكتاب بعد».
فقال سهيل: فوالله إذاً لم أصالحك علىٰ شيء أبداً، فقال النبي ﷺ: «فأجزه لي». فقال سهيل: ما أنا بمجيزه لك. قال النبي ﷺ: «بلىٰ فافعل». قال: ما أنا بفاعل. فقال مكرز: بلىٰ قد أجزناه لك. قال أبو جندل: أي معشر المسلمين أُرد إلىٰ المشركين وقد جئت مسلماً؟!
قال عمر: فأتيت نبي الله ﷺ. فقلت: ألست نبي الله حقاً؟ قال له النبي ﷺ: «بلىٰ». قال: ألسنا علىٰ الحق وعدونا علىٰ الباطل؟ قال: «بلىٰ». قال: فلِمَ نعطي الدَنِيَّة في ديننا إذاً؟ فقال الرسول ﷺ: «إنّي رسول الله، ولست أعصيه وهو ناصري». قلت: أوليس كنت تحدثنا أنّا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: «بلىٰ. فأخبرتك أنّا نأتيه العام؟». قال عمر: لا. قال الرسول ﷺ: «إنك آتيه ومطوّف به». قال عمر: فأتيت أبا بكر، فقلت: يا أبا بكر أليس هذا نبي الله حقاً؟ قال: بلىٰ. قلت: ألسنا علىٰ الحق وعدونا علىٰ الباطل؟ قال: بلىٰ. قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا؟ قال أبو بكر: أيها الرجل إنه لرسول الله ﷺ، وليس يعصي ربه وهو ناصره، فاستمسك بغرزه([1])، فوالله إنه علىٰ الحق.
وهذا يبين لنا رجاحة عقل أبي بكر الصديق رضي الله عنه، قال عمر: أليس كان يحدثنا أنّا سنأتي البيت ونطوف به؟ قـال أبو بكر: بلىٰ. فأخبرك أنك ستأتيه العام؟ قلت: لا. قال: فإنك آتيه ومُطَوِّف به. قال عمر: فعملت لذلك أعمالاً، فما زلت أصوم وأتصدق.
فلما فرغ من قضية الكتاب، قال الرسول ﷺ لأصحابه: «قوموا فانحروا ثمّ احلقوا».
وهذا يسمىٰ في الشرع الحَصْر، والإنسان إذا أُحصر فإنه يهدي الهدي الذي معه ويتحلل من إحرامه، وهذا لمن كان معه الهدي كما قال الله تعالى: ﴿وَأَتِمُّوا ٱلْحَجَّ وَٱلَعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ ٱلْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِٱلْعُمْرَةِ إِلَى ٱلْحَجِّ فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي ٱلْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَٱتَّقُوا ٱللَّهَ وَٱعْلَمْوا أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ﴾ .
فوالله ما قام منهم رجل حتىٰ قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد دخل علىٰ أم سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس. فقالت: يا نبي الله أتحب ذلك؟ اخرج ثمّ لا تكلم أحداً منهم كلمة، حتىٰ تنحر بُدْنك وتدعو حالقك فيحلقك، فخرج النبي ﷺ فلم يكلم أحداً منهم حتىٰ فعل ذلك، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق لبعض، حتىٰ كاد بعضهم يقتل بعضاً غمّاً.
نرىٰ هنا أن النبي ﷺ أمر الصحابة وما نفذوا هل تعتبر هذه معصية؟ نقول: هم ما نفذوا أمر النبي ﷺ، ولكن لِم لَم ينفذوا أمره؟ هم تمنوا أن ينزل الله تبارك وتعالىٰ أمره بالدخول إلىٰ مكة، أو أن يغير النبي ﷺ رأيه ويعزم علىٰ الدخول؛ لأنهم كانوا متلهفين لدخول مكة، ولكن أم سلمة رضي الله عنها كانت راجحة العقل، وفهمت أن الصحابة رضي الله عنهم إنما امتنعوا عن ذلك لأجل هذين الأمرين، فأشارت عليه بأن ينحر ويحلق، ثمّ ينظر كيف تكون ردة الفعل، فقبل رأيها ﷺ فنحر وحلق، فلما رأىٰ الصحابة ذلك نحروا وحلقوا بدون أمر.
ثمّ جاء نسوة مؤمنات، فأنزل الله تبارك وتعالىٰ: ﴿ يَاأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ ٱلْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَٱمْتَحِنُوهُنَّ ٱللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى ٱلْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ [الممتحنة: 10] وقوله: ﴿ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا﴾ أي من المهر ﴿ وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ﴾ أي بعد انفساخ العقد وانقضاء العدة ﴿ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ أي المهر، ثم قال تعالىٰ: ﴿ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ ٱلْكَوَافِرِ﴾ [المُمتَحنَة: 10] أي لا تجعلوا الكافرات في عصمتكم، كما أن المؤمنة لا يجوز لها أن تعيش مع الكافر، ثم قال تعالىٰ: ﴿ وَٱسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ﴾ أي كما إنكم تعطونهم ما أنفقوا أيضاً أنتم اسألوا من الكافرات اللاتي تفسخون عقدهن، ﴿ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ ٱللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ .
فطلق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك، فتزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان والأخرىٰ صفوان بن أمية، وبعد صلح الحديبية نزلت سورة الفتح كاملة، ويسمي أهل العلم صلح الحديبية فتحاً.
([1]) الغَرْ: مثل لجام الخيل، ولكن يكون للإبل، أي تمسك بمحمد ﷺ.