أُري الرسول ﷺ في المنام ــ وهو في المدينة ــ أنه دخل هو وأصحابه المسجد الحرام، وأنهم طافوا واعتمروا وحلق بعضهم وقصّر آخرون، فأخبر النبي ﷺ أصحابه بذلك، ففرحوا فرحاً شديداً؛ وذلك لشوقهم إلىٰ بيت الله تبارك وتعالىٰ، فأمر الصحابة بالتجهّز، فتجهزوا ليخرجوا مع النبي ﷺ، واستنفر ﷺ العرب ومن حولهم من البوادي ليخرجوا معه، فأبطأ كثير من الأعراب، واستخلف علىٰ المدينة ابن أم مكتوم، وخرج منها ــ كما هو مشهور ــ في يوم الاثنين في أول ذي القعدة في السنة السادسة من الهجرة، وكان قد أخذ من نسائه في تلك السفرة أم سلمة.

ولم يأخذ معه سلاحاً ﷺ إلا سلاح المسافر؛ إذ لم يكن خروجه ﷺ لقتال، وإنما خرج للعمرة، ووصل ﷺ إلىٰ الحديبية، والحديبية تقع غرب مكة علىٰ بعد 22 كيلومتراً علىٰ الطريق إلىٰ جدة، وقد تغير اسمها اليوم إلىٰ منطقة الشميسي، واختلف أهل العلم هل هي من الحِل أم من الحرم، وذهب بعضهم إلىٰ أنها جمعت بين الحل والحرم، وهذا قول الإمام الشافعي رحمه الله.

أخرج الإمام البخاري في «صحيحه»([1]): عن عروة بن الزبير، عن المسور ابن مخرمة ومروان يصدق كل واحد منهما حديث صاحبه، قال: خرج رسول الله ﷺ زمن الحديبية حتىٰ إذا كانوا ببعض الطريق؛ قال النبي ﷺ: إن خالد بن الوليد بالغميم([2]) في خيل لقريش طليعةٌ([3])، فخذوا ذات اليمين.

يقول الراوي: فوالله ما شعر بهم خالد، حتىٰ إذا همّ بِقَتَرَةِ الجيش([4]) فتفاجأ أهل مكة بالغبار يرونه من بعيد، فانطلق من انطلق يركض نذيراً لقريش، وسار النبي ﷺ حتىٰ إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت به راحلته، فقال الناس: حلْ، حلْ([5]) فَأَلَحَّت فقالوا: خلأت القصواء([6]).

والقصواء هي ناقة النبي ﷺ وكان من عادته أن يسمي دوابه، وهذه سنة غابت عن الكثيرين في هذا الزمان، وهي أن يسمي الإنسان دابته وبعض حاجياته.

فقال النبي ﷺ: «ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل».

وحابس الفيل: هو لما أراد أبرهة أن يهدم الكعبة، وكان قد جاء معه بالفيلة، وكان يترأس الفيلة فيل عظيم يقال له: محمود، فكانوا إذا أرادوه إلىٰ طريق مكة امتنع عليهم وبرك، فإذا أرادوه إلىٰ غير ذلك الطريق قام مسرعاً، فقال النبي ﷺ: «بل حبس القصواء حابس الفيل»، وهي رحمة الله تبارك وتعالىٰ بهذا البيت وأهل هذا المكان.

قال: «والذي نفسي بيده لا يسألونني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها». ثم زجرها فوثبت فعدل عنهم([7])، حتىٰ نزل بأقصىٰ الحديبية، علىٰ ثمد قليل الماء([8]) يتربضه الناس تربضاً([9])، فلم يلبّثه الناس حتىٰ نزحوه([10]).

وشُكي إلىٰ النبي ﷺ العطش، فانتزع سهماً من كنانته، ثم أمرهم أن يجعلوه فيه([11])، فوالله مازال يجيش لهم بالرِي حتىٰ صدروا عنه.

وهذه آية وعلامة علىٰ صدق النبي ﷺ وعلىٰ أنه مبعوث من رب العزة تبارك وتعالىٰ.

فبينما هم كذلك إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه من خزاعة، وكانوا عيبة نصح رسول الله ﷺ من أهل تهامة([12])، فقال بديل بن ورقاء: إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي نزلوا أعداد مياه الحديبية ومعهم العوذ المطافيل([13])، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت([14]).

فقال رسول الله ﷺ: «إنّا لم نجئ لقتال أحد، ولكنا جئنا معتمرين، وإن قريشاً قد نَهَكَتهم الحرب وأَضَرَّت بهم، فإن شاؤوا ماددتهم مدة([15])، ويُخَلّوا بيني وبين الناس، فإن أظهر، فإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإن لا فقد جَمّوا([16])، دماءهم، وإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنّهم علىٰ أمري هذا حتىٰ تنفرد سالفتي([17])، ولينفذنّ الله أمره([18])».

قال بديل: سأبلغهم ما تقول. فانطلق حتىٰ إذا أتىٰ قريشاً قال: إنّا جئناكم من هذا الرجل، وسمعناه يقول قولاً، فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا([19]). فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا أن تخبرونا عنه بشيء. وقال ذوو الرأي منهم: هات ما سمعته يقول. قال: سمعته يقول كذا وكذا، فحدثهم بما قال النبي ﷺ. فقام عروة بن مسعود فقال: أي قومي ألستم بالوالد؟ قالوا: بلىٰ. قال: أَوَلَسْت بالولد؟ قالوا: بلىٰ. قال: فهل تتهمونني؟ قالوا: لا. قال: ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ فلما بلّحوا ــ أي امتنعوا ــ عليَّ جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني؟ قالوا: بلىٰ. قال: فإنَّ هذا قد عرض عليكم خطة رشد اقبلوها ودعوني آته. قالوا: ائته، فأتاه فجعل يكلم النبي ﷺ.

فقال النبي ﷺ نحواً من قوله لبديل، فقال عروة عند ذلك: أي محمد أرأيت إن استأصلت أمر قومك([20])، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك؟ وإن تكن الأخرىٰ([21])، فإني والله لا أرىٰ وجوهاً وإني لأرىٰ أشواباً([22]) من الناس خليقاً أن يفروا ويدعوك، فقال له أبو بكر: امصص بظر اللات، أنحن نفر عنه وندعه؟ وأبو بكر هنا سبّ عروة بن مسعود([23]).

فقال عروة بن مسعود للنبي ﷺ: من ذا؟ فقال النبي ﷺ: «هذا أبو بكر». قال: أما والذي نفسي بيده؛ لولا يد كانت لك عندي لم أَجْزِك بها لأجبتك.

وذلك أن عروة بن مسعود كانت عليه دية قبل بعثة النبي ﷺ، فساعده أبو بكر في ديته تلك.

وفي بعض الروايات أنه قال له: ولكن هذه بتلك.

قال الراوي: وجعل عروة بن مسعود يكلم النبي ﷺ، فكلّما تكلم كلمة أخذ بلحيته والمغيرة بن شعبة قائم علىٰ رأس النبي ﷺ معه السيف وعليه المغفر، فكلما أهوىٰ عروة بيده إلىٰ لحية النبي ﷺ ضرب المغيرة يد عروة بنعل السيف([24]) وقال له: أخّر يدك عن رسول الله ﷺ.

وعروة كان رجلاً معظماً في قومه، ولما أُنزل القرآن علىٰ النبي ﷺ قالوا: ﴿وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا ٱلْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ [الزخرف: 31]، يعنون به عروة بن مسعود.

فرفع عروة رأسه فقال: من هذا؟ فقال له: المغيرة بن شعبة. فقال له عروة: أي غُدَر، ألست أسعىٰ في غدرتك؟! وكان المغيرة صحب قوماً في الجاهلية فغدر بهم وقتلهم وأخذ أموالهم، ثمّ جاء فأسلم، فقال النبي ﷺ: «أما الإسلام فأقبل، وأما المال فلست منه في شيء». فيُذكر أن عروة بن مسعود دفع المال بدل المغيرة ودفع الدية عنه؛ لأنه ثقفي والمغيرة ثقفي.

ثمّ إن عروة جعل يرمق أصحاب النبي ﷺ بعينيه، قال: فوالله ما تنخّم رسول الله ﷺ نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده([25])، وإذا أمرهم ابتدروا، وإذا توضأ كادوا يقتتلون علىٰ وضوئه، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدّون إليه النظر تعظيماً له.

وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه قال: قبل أن أسلم كان محمد أبغض خلق الله إليَّ، فلما أسلمت كان والله أحب خلق الله إليَّ، والله ما كنت أشبع منه نظراً إجلالاً له ﷺ حتىٰ لو قيل لي: صفه ما استطعت.

قال المسور: فرجع عروة إلىٰ أصحابه، فقال: أي قوم، والله لقد وفدت علىٰ الملوك ووفدت علىٰ قيصر وكسرىٰ والنجاشي، والله إنْ رأيت مليكاً قط يعظّمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد ﷺ محمداً، والله إن يتنخّم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون علىٰ وضوئه، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدّون إليه النظر تعظيماً له.

هذه الأمور التي رآها عروة بن مسعود من أصحاب النبي ﷺ إنما فعلوا ذلك لأمر، ألا وهو أنه قال عروة بن مسعود أول ما جاء: هؤلاء أشواب من الناس سينصرفون عنك وليسوا بفرسان وسيتركونك تقتل، فأراه أصحاب النبي ﷺ بعض محبتهم للنبي ﷺ، ولم يكن من عادتهم أنه إذا بصق يأخذون نخامته، في المدينة أبداً ما نقل هذا إلا هنا، وكذلك اقتتالهم علىٰ وضوئه، أما بقية الأمور كخفض الصوت وعدم حد النظر إلىٰ النبي ﷺ وابتدار الأمر فهذا في كل مكان وزمان.

قال عروة: وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها. فقال رجل من بني كنانة يقال له: الحُلّيس وهو من الأحابيش([26]) قال: دعوني آته. قالوا: ائته.

فلما أشرف علىٰ النبي ﷺ وأصحابه قال رسول الله ﷺ: «هذا فلان وهو من قوم يعظمون البُدن([27])، فابعثوها له». فبُعثت له واستقبله الناس يلبّون، فلما رأىٰ ذلك قال: سبحان الله، ما ينبغي لهؤلاء أن يُصَدوا عن البيت.

فلما رجع إلىٰ أصحابه قال: رأيت البدن قد قُلّدت وأُشعرت، فما أرىٰ أن يُصَدوا عن البيت([28]).

وهذا يبين لنا أن لكل مقام مقالاً، وأن الهدي ليس خاصاً بالحج، بل حتىٰ العمرة فيها هدي، وتقليدها هو وضع علامة علىٰ الإبل يعرف منها من يراها أنها هدي سيقدم لله جلّ وعلا، وأما الإشعار فهو جرح السنام ليخرج منه الدم ويسيل علىٰ جسد البعير، وهذا وإن كان في ظاهره إيذاء للحيوان إلا أن له مصالح كثيرة منها أنه عندما يراه الرائي من بعيد يعرف إنه قدّم هدياً لله جلّ وعلا فلا يقدم أحد علىٰ سرقته، وإذا فقد فوجده أحدهم عرف أنه هدي، وغير ذلك.

 

([1])             (2731، 2732).

([2])            الغميم: مكان بين مكة والمدينة.

([3])            وذلك أن قريشاً سمعت أن النبي ﷺ قد خرج من المدينة يريد مكة فخرج له خالد بن الوليد بطليعة ليرده.

([4])            بغبار الجيش؛ لأن الخيل والإبل والهدي الذي ساقه معه النبي ﷺ لها غبار.

([5])            وهذه كلمة تقال للناقة إذا أرادوها أن تمشي.

([6])            أي تمنعت عن المشي.

([7])            عن الدخول إلىٰ مكة.

([8])            والثمد هي حفرة يكون فيها الماء.

([9])            يأتون ويأخذون منه بعض الماء ليواصلوا طريقهم.

([10])          وذلك لكثرة من مع النبي ﷺ وذاك في حديث جابر أنهم ألف وخمسمئة.

([11])           أي أن يجعلوا السهم في الثمر.

([12])          وعيبة النصح هم الناصحون للنبي ﷺ والذين يبث لهم أسراره ويأتمنهم.

([13])          نوع من الإبل.

([14])          وبنو كعب بن لؤي هم أهل مكة.

([15])          صلحاً بمدة.

([16])          منعوا.

([17])          حتىٰ أموت في سبيل هذا الأمر.

([18])          لينصرنّ الله دينه بمحمد أو بغير محمد ﷺ.

([19])          وهذا فيه تحضيض ليسمعوا بإنصات.

([20])         قتلتهم.

([21])          يعني استأصلوك هم.

([22])         أشباحاً.

([23])         أي اذهب إلىٰ إلهك الذي تدعوه ومص فرجه.

([24])         بقبضة السيف.

([25])         التبرك: هو طلب البركة، والأصل في البركة أنها أمر توقيفي، فالله جل وعلا هو الذي يجعل البركة في الأشياء، فذكر عن عيسىٰ ويحيىٰ أنهما مباركان، وكل الأنبياء مباركون وجعل سبحانه ماء زمزم مباركاً، ويوم الجمعة مباركاً، وليلة القدر مباركة، وشجرة الزيتون مباركة، والخيل مباركة، والنبي ﷺ رجل مبارك، وآثاره من شعره ولباسه وريقه ويده وعرقه كلها مباركة، ولأجل ذلك كان يعطي شعره لأصحابه، ويأخذون عرقه وملابسه لطلب البركة، وهكذا هنا أخذوا نخامته وإن كان أخذ النخامة ليس من عادتهم، ولكنهم أرادوا أن يظهروا لعروة مدىٰ محبتهم للنبي ﷺ.
وبحث هذا يطول، ويمكن مراجعته في كتب التوحيد، وفي «القول المفيد شرح كتاب التوحيد» (1/194) لشيخنا ابن عثيمين كلام طيب في التبرك.

([26])         والأحابيش مجموعة من الناس خرجوا من قبائلهم وعاشوا في مكة.

([27])         وهي الهدي من الإبل.

([28])         أخرجه البخاري (2731، 2732).