ليخرجن الأعز منها الأذل
13-03-2023
كان مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه أجير يقال له: جهجاه الغفاري، فازدحم جهجاه مع سنان بن وبر الجُهني علىٰ الماء فاقتتلا، فصرخ الجُهني قائلاً: يا معشر الأنصار وصرخ جهجاه قائلاً: يا معشر المهاجرين. فقال رسول الله ﷺ: «أبدعوىٰ الجاهلية وأنا بين أظهركم، دعوها فإنها منتنة». فلما سمع عبد الله بن أبي بن سلول بذلك قال: أَوَقَد فعلوها؟! قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، والله ما نحن وهم إلا كما قال الأول: سمّن كلبك يأكلك. أما والله لئن رجعنا إلىٰ المدينة ليخرجنّ الأعزُّ منها الأذلَّ. ثم أقبل علىٰ من حضره، فقال لهم: هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلىٰ غير دياركم.
وسمع زيد بن أرقم رضي الله عنه هذا الكلام وكان شاباً صغيراً، فذهب إلىٰ عَمه فأخبره، فأخبر عمه رسول الله ﷺ، وكان عنده عمر رضي الله عنه فقال عمر: يا رسول الله مُرْ عبَّاد بن بشر فليقتله. فقال الرسول ﷺ: «فكيف يا عمر إذا تحدث الناس إنّ محمداً يقتل أصحابه؟». ثم سكت النبي ﷺ، فلما ارتحل الناس جاء أسيد بن حضير رضي الله عنه إلىٰ النبي ﷺ فقال له الرسول ﷺ: «أما بلغك ما قال صاحبكم؟». فقال: وما قال؟ فقال الرسول ﷺ: «زعم إن رجع إلىٰ المدينة ليخرجنّ الأعز منها الأذل». فقال أسيد بن حضير: فأنت يا رسول الله تخرجه منها إن شئت، هو والله الذليل وأنت والله العزيز. ثمّ قال: يا رسول الله ارفق به، والله لقد جاءنا الله بك وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه، فإنه يرىٰ أنك استلبته ملكه.
ثمّ مشىٰ النبي ﷺ بالناس حتىٰ أصبح وصدر يومه ذلك، حتىٰ آذتهم الشمس، ثم نزل بالناس ووقعوا نياماً، وذلك أن النبي ﷺ لا يريدهم أن يتكلموا بهذا الأمر، فأتعبهم في المشي حتىٰ إذا وصلوا ناموا، أما عبد الله بن أُبي فإنه علم أن زيداً بلّغ النبي ﷺ الخبر، فذهب إلىٰ النبي وحلف وقال: والله يا رسول الله ما قلت، وإنما كذب عليَّ زيد. وقال من حضر من الأنصار: يا رسول الله عسىٰ أن يكون الغلام قد أوهم في حديثه، ولم يحفظ ما قال الرجل فصدقه.
قال زيد بن أرقم: فأصابني هَمٌّ لم يصبني مثله قط. لأنه يُتهم بالكذب أو بعدم الفهم. يقول: فجلست في بيتي من الحزن، فأنزل الله جلّ وعلا: ﴿إِذَا جَاءَكَ ٱلْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ﴾ إلىٰ قوله تعالىٰ: ﴿هُمُ ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ ٱللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلْأَرْضِ وَلَكِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى ٱلْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ ٱلْأَعَزُّ مِنْهَا ٱلْأَذَلَّ وَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [المنافقون: 1 ــ 8].
هنا بين الله تبارك وتعالىٰ أن زيداً لم يكذب رضي الله عنه، وإنما صدق بما قال، وأن عبد الله بن أبي بن سلول كاذب في مدعاه، فأرسل رسول الله ﷺ إلىٰ زيد فقرأها عليه، ثم قال له: «إن الله قد صدقك»([1]).
وكان عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول رجلاً صالحاً من أصحاب النبي ﷺ، فبلغه أن والده قال هذا الكلام عن رسول الله وأصحابه، فوقف في وجه والده عند دخوله المدينة وقال له: أأنت الذي تقول: لئن رجعنا إلىٰ المدينة ليخرجنّ الأعز منها الأذل، تريد رسول الله ﷺ؟ فوالله لرسول الله هو الأعز، وأنت الأذل.
فحميَّة العقيدة طغت علىٰ حميَّة الولادة، ثم قال: والله لا تدخل إلىٰ المدينة إلا وأنا قاتلك أو يأذن لك رسول الله ﷺ.
عند ذلك أمره النبي ﷺ أن يتركه ودخل إلىٰ المدينة، وفي رواية: أنه جاء إلىٰ رسول الله فقال: يا رسول الله، إنه قد بلغني أن والدي قال: كيت كيت، فإن أردت قتله فدعني أنا أقتله، فإني أخشىٰ أن أرىٰ قاتل والدي فلا أصبر.
([1]) أخرجه البخاري (4900)، من حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه، وانظر: «سيرة ابن هشام» (2/291 ــ 292).