وكانت في آخر السنة الرابعة، وقيل: في بداية السنة الخامسة، وسبب الغزوة أنه خرج عشرون رجلاً من بني قريظة، ومعهم آخرون من بني النضير إلىٰ مكة، وأخذوا يحرضون أهل مكة علىٰ قتال النبي ﷺ ويقولون: نحن معكم ننصركم من الداخل ومن الخارج. وذهبوا إلىٰ غطفان وقالوا: انصروا قريشاً علىٰ محمد. وذهبوا إلىٰ قبائل العرب يحرضونهم علىٰ قتال النبي ﷺ. فخرجت قريش وكنانة وخرج غطفان واليهود وتجمعوا حول مدينة الرسول ﷺ بعشرة آلاف، واتفقوا علىٰ قتال رسول الله ﷺ.

ولما علِم النبي ﷺ أن قريشاً مع غطفان وكنانة واليهود تحالفوا عليه؛ استشار أصحابه فأشار عليه سلمان الفارسي رضي الله عنه أن يحفر خندقاً، وقال: هكذا كان يفعل الفرس إذا تضايقوا، فأمر النبي ﷺ بحفر الخندق حول المدينة من جهة الشمال؛ لأن الجهات الأخرىٰ كلها محصورة بالجبال فلا يستطيع أحد أن يأتي منها، فصاروا يحفرون بجد ونشاط، والرسول ﷺ يشاركهم.

قال سهل بن سعد رضي الله عنه: كنا مع رسول الله ﷺ في الخندق وهم يحفرون ونحن ننقل التراب علىٰ ظهورنا، فقال الرسول ﷺ: «اللَّهم لا عيش إلا عيش الآخرة، فاغفر للمهاجرين والأنصار»([1])، وفي رواية: «فأكرم الأنصار والمهاجرة»([2]).

وعن أنس رضي الله عنه قال: خرج رسول الله ﷺ إلىٰ الخندق، فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون في غداة باردة، فلم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم، فلما رأىٰ ما بهم من النصب والجوع قال ﷺ: «اللَّهم إن العيش عيش الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة»، فقالوا له:

نحن الذين بايعوا محمداً    

                                         علىٰ الجهاد ما بقينا أبدا([3])

وُدّ متبادل بين النبي ﷺ وأصحابه، وعن البراء قال: رأيت النبي ﷺ ينقل من تراب الخندق حتىٰ وارىٰ عني الغبار جلدة بطنه([4]) فسمعته يرتجز بكلمات عبد الله بن رواحة وهي:

اللَّهمَّ لولا أنتَ ما اهتدينا  

                                                     ولاتَصَدَقنا وما صَلَّينا

فأَنْـِزَلن سكينةً علينا           

           وثَبِّتِ الأقدامَ إنْ لاقينا

إنَّ الأُلىٰ قَدْ بَغَوا علينا

                                                        وإنْ أرادوا فِتْنَةً أَبينا

ويعيدها:

إن الأُلىٰ قد بغوا علينا

                                                  وإن أرادوا فتنة أبينا([5])

قال أبو طلحة رضي الله عنه: شكونا إلىٰ رسول الله ﷺ من الجوع، ومن شدة الشكوىٰ رفعنا القمص عن بطوننا نري النبي ﷺ أننا نربط الحجر علىٰ بطوننا من شدة الجوع، فرفع النبي ﷺ عن بطنه وإذا هو قد ربط حجرين([6]).

وهكذا يطمئن الناس إذا كان قائدهم مثل النبي ﷺ يشعر بشعورهم، يجوع كما يجوعون، ويعطش كما يعطشون، ويعمل كما يعملون، ويهتم كما يهتمون، لا يكون في برج عاجي بعيد عن الناس، وإنما يشاركهم ويخالطهم، فإذا رأوا ذلك علموا أنهم ليسوا فقط الذين يعملون فهذا قائدهم معهم يشاركهم بل هو أكثر منهم ﷺ.

 

([1])             أخرجه البخاري (3797)، ومسلم (1804).

([2])            أخرجه البخاري (2961)، ومسلم (1805).

([3])            أخرجه البخاري (2834)، ومسلم (1805).

([4])            من كثرة الغبار ما أرىٰ بطن النبي ﷺ.

([5])            أخرجه البخاري (2837).

([6])            أخرجه الترمذي (2371).