اليهود وإن كان بينهم وبين النبي ﷺ صلح ومعاهدات إلا أنهم ــ كما هو معلوم ــ أهل غدر، وكما ذكرنا من غدر بني قينقاع؛ الآن نذكر غدر بني النضير، وبعدهم نذكر غدر بني قريظة، حتىٰ يُعلم أنهم من عادتهم الغدر.

خرج النبي ﷺ في نفر من أصحابه إلىٰ اليهود وكلمهم أن يعينوه في دية الكلابيين الذين قتلهما عمرو بن أمية فقالوا: نفعل يا أبا القاسم، اجلس ها هنا حتىٰ نقضي حاجتك، فجلس ﷺ إلىٰ جانب جدار من بيوتهم ينتظر وفاءهم ومعه بعض أصحابه، منهم: أبو بكر وعمر، فاجتمع اليهود وقالوا: اقتلوه هذه فرصتكم، فاتفقوا علىٰ أن يصعد أحدهم إلىٰ أعلىٰ البيت القريب من الرسول ﷺ ويلقي عليه حجراً فيقتله، فقام رجل يقال له: عمرو بن جحاش فقال: أنا أفعلها. قال سلّام بن مشكم: فوالله ليخبرن بما هممتم به([1])، وإنه لنقض للعهد الذي بيننا وبينه، فقالوا: دعنا عنك.

فنـزل جبريل من عند رب العالمين علىٰ رسول الله ﷺ ليعلمه بما هموا به، فقام ﷺ مسرعاً من مكانه، وذهب إلىٰ المدينة ولحقه أصحابه، وقالوا له: يا رسول الله نهضت بدون أن تعلمنا السبب؟ فأخبرهم أن اليهود قد عزموا علىٰ قتله ﷺ، فأرسل الرسول ﷺ محمد بن مسلمة إلىٰ بني النضير يقول لهم: اخرجوا من المدينة ولا تساكنوني بها، وقد أجلتكم عشراً([2])، فمن وجدت بعد ذلك بها ضربت عنقه، ولم يجد اليهود مناصاً من الخروج، فقاموا أياماً يتجهزون للرحيل، ولكن عبد الله بن أبي بن سلول بعث إليهم وقال: لماذا تخرجون؟ اثبتوا وتمنعوا ولا تخرجوا من دياركم، فإن معي ألفين يدخلون معكم حصنكم فيموتون دونكم، وتنصركم قريظة، وينصركم حلفاؤكم من غطفان، فلماذا تخافون من محمد؟! اثبتوا، فأعاد إليهم ثقتهم بأنفسهم فأرسلوا إلىٰ النبي ﷺ: لن نخرج فاصنع ما شئت.

فلما بلغ النبي ﷺ جواب سيدهم حيي بن أخطب كبّر ﷺ وكبّر أصحابه ثمّ نهض صلـوات الله وسـلامه عليه لمنـاجزة القـوم، وجـعل علىٰ المدينة عبد الله ابن أم مكتوم، وجعل اللواء مع علىٰ بن أبي طالب، وفرض عليهم الحصار، ثم أمر بقطع النخيل، فقالوا: محمد يفسد في الأرض! فقال الله تبارك وتعالىٰ: ﴿ مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ ٱللَّهِ﴾ [الحشر: 5].

فلما رأوا حصار النبي ﷺ اعتزلتهم قريظة، وقالوا: لا شأن لنا، بيننا وبين محمد عهد. واعتزلهم عبد الله بن أبي ابن سلول، وخانتهم غطفان، وظلوا وحدهم.

قال الله تبارك وتعالى: ﴿هُوَ ٱلَّذِي أَخْرَجَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ ٱلْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ ٱللَّهِ فَأَتَاهُمُ ٱللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي ٱلْمُؤْمِنِينَ فَٱعْتَبِرُوا يَاأُولِي ٱلْأَبْصَارِ وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمُ ٱلْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي ٱلْآخِرَةِ عَذَابُ ٱلنَّارِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ ٱللَّهَ فَإِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ ٱللَّهِ وَلِيُخْزِيَ ٱلْفَاسِقِينَ﴾  [الحشر: 2-5].

 قال عبد الله بن عباس: إن سورة الحشر نـزلت فيهم، وفيها قصة عبد الله بن أبي ابن سلول: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ ٱلْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ﴾ [الحشر: 11 ــ 12]، فامتنعوا عن نصرهم، وخذلوهم وخذلتهم غطفان، فقال الله تبارك وتعالىٰ: ﴿كَمَثَلِ ٱلشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ ٱكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ ٱللَّهَ رَبَّ ٱلْعَالَمِينَ﴾ [الحشر: 16].

ولم يطل الحصار فقط ست ليال، وقيل: أكثر من ذلك، فقذف الله تبارك وتعالىٰ في قلوبهم الرعب، فقالوا: يا محمد نخرج من المدينة بشرط أن يخرج معنا ذرارينا وما حملت إبلنا من السلاح. فقال النبي ﷺ: «لا إلا السلاح، لكم ما حملت الإبل إلا السلاح». فنـزلوا علىٰ رأي النبي ﷺ وصاروا يخربون بيوتهم حتىٰ لا يسكنها المسلمون، وأخذ بعضهم الشبابيك والأوتاد وغيرها معهم، وحملوا النساء والصبيان علىٰ ستمئة بعير، ورحل أكثرهم كحيي وسلّام بن أبي الحقيق إلىٰ خيبر.

وقبض النبي ﷺ سلاحهم، واستولىٰ علىٰ أرضهم فوجد من السلاح خمسين درعاً، وثلاثمئة وأربعين سيفاً([3]).

 

([1])             سبحان الله! يعلمون أنه صادق.

([2])            عشرة أيام.

([3])            «الطبقات الكبرىٰ» لابن سعد (2/58).