في السنة الرابعة من الهجرة قدم علىٰ الرسول ﷺ قوم من عضل وقارة وذكروا أن فيهم إسلاماً، وسألوا أن يبعث معهم من يعلمهم الدين ويُقرؤهم القرآن، فبعث النبي ﷺ معهم عشرةً من أصحابه، وأمّر عليهم عاصم بن ثابت وقيل: أمّر مرثد بن أبي مرثد، فلما وصلوا إلىٰ مكان يقال له: الرجيع؛ استصرخوا عليهم([1]) حياً من هذيل يقال لهم: بنو لحيان، فتبعوهم بقريب من مئة رام من بني لحيان، فلحقوهم وأحاطوا بهم، ثم لجؤوا إلىٰ مكان يصدهم عن الأعداء، فقال لهم أعداؤهم: لكم العهد والميثاق إن نـزلتم إلينا أن لا نقتل منكم رجلاً.

فأبىٰ عاصم أن ينـزل، وقاتلهم مع أصحابه فقتل منهم سبعة، وأما خبيب ابن عدي وزيد بن الدَّثِنَة ورجل آخر؛ فأعطوهم العهد والميثاق فنـزلوا إليهم؛ لأنهم أكثر من مئة مقابل خمسة، وليس معهم سلاح، ولكنهم غدروا بهم وربطوا اثنين بأوتار قسيّهم([2])، فقال الرجل الثالث: هذا أول الغدر، صالحتمونا ثمّ تربطوننا، فأبىٰ أن يستسلم لهم، وقاتلهم حتىٰ قُتِل، وأخذوا خبيب بن عدي وزيد ابن الدثنة فباعوهما بمكة، وكانا قتلا من رؤوسهم يوم بدر. فأما خبيب فمكث عندهم مسجوناً، ووقعت له حادثتان:

الحادثة الأولىٰ: أنهم كانوا يجدون عنده الطعام ولم يعطه أحد شيئاً، وإنما هي كرامة من الله سبحانه وتعالى.

الحادثة الثانية: أنه طلب الموسىٰ حتىٰ يحلق الشعر الذي في جسده، فأرسلت المرأة التي هو في بيتها الموسىٰ مع ولدها، فلما أتاه الولد بالموسىٰ تذكرت المرأة كيف ترسل الموسىٰ مع ولدها؟ وهذا الرجل مقتول، وقد يقتل ولدها مقابل نفسه لينتقم، فجاءت مسرعة، فلما رأىٰ خبيب المرأة وهلعها، والولد عنده والموسىٰ معه قال لها: أخشيت أن أقتله؟! وتركه ولم يؤذه.

ثم أُخذ خبيب رضي الله عنه إلىٰ التنعيم خارج مكة أي إلىٰ الحِل؛ لأنهم كانوا يستحرمون القتل داخل الحرم، وهنا يستحلون الغدر، فتحريمهم وتحليلهم هوىٰ وليس اتباعَ دينٍ، فلما أجمعوا علىٰ صلبه قال: دعوني حتىٰ أركع ركعتين، فتركوه فصلاهما، فلما قضىٰ قال: والله لولا أن تقولوا إنما بي جزع لزدت، فصلىٰ صلاة قصيرة، وهي ركعتان، وقال أهل العلم: سنة القتل ركعتان سنها خبيب رضي الله عنه.

ثم قال خبيب: اللَّهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تبقِ منهم أحداً، ثم قال أبياتاً من الشعر:

لقد أجمعَ الأحزابُ حولي وألّبوا    

                             قبائلهم واستجمعوا كُلَّ مَجْمعَ

وقد قربوا أبناءهم ونساءهم         

                                 وقُرِّبتُ من جِذعٍ طويلٍ ممنّعٍ

إلىٰ الله أشكو غُربتي بعد كربتي     

                      وما جمع الأحزاب لي عند مضجعي

فذا العَرْشِ صَبِّرني علىٰ ما يُرادُ بي 

                         فَقَد بَضَّعوا لحمي وقد بُؤس مَطْمع

وقد خَيَّروني الكفرَ والموتَ دونه     

                             فقد ذَرَفَت عيناي من غير مَدْمَع

ولستُ أبالي حين أُقتَل مسلما      

                             علىٰ أي شِقٍّ كان في الله مصرَعي

وذلك في ذات الإلهِ وإن يَشَأ          

                                 يبارك علىٰ أَوصالِ شِلْوٍ مُمزع

فالتفت إليه أبو سفيان وقال له: يا خبيب أيسرك أن محمداً عندنا تُضرب عنقه وأنك في أهلك؟ فماذا كان جواب المؤمن المحب لرسول الله ﷺ؟ قال: لا والله ما يسرني أني في أهلي وأن محمداً ﷺ في مكانه الذي هو فيه يصاب بشوكة تؤذيه. ثم صلبوه رضي الله عنه ووكّلوا به من يحرس جثته، فجاء عمرو بن أمية الضمري، فاحتمله بالليل خديعة دون أن يراه أحد، فذهب به ودفنه. ويقال: إن الذي باشر قتل خبيب بن عدي هو عقبة بن الحارث.

قال معاوية رضي الله عنه: كنت فيمن حضـر قتل خبـيب، فلقد رأيت أبا سفيان يلقيني إلىٰ الأرض فرقاً من دعوة خبيب، وكانوا يقولون: إن الرجل إذا دُعي عليه فاضطجع زلت عنه الدعوة. فكانوا يعتقدون أنه مظلوم، وأن دعوته حق، وكان كذلك، وممن حضر قتل خبيب بن عدي سعيد بن عامر.

وله معه قصة: وذلك أن عمر في خلافته قد جعله والياً علىٰ الشام، فسأل عمر رضي الله عنه الناس في الشام وقال: كيف حال واليكم؟ فقالوا: لا ننقم عليه إلا ثلاثة أشياء. قال عمر: وما هي؟ قالوا: في يوم من الأسبوع لا يخرج إلينا، والثانية: أنه لا يخرج إلينا في الليل، والثالثة: أحياناً وهو جالس معنا تصيبه غشية ويقع.

فناداه عمر فقال: يا سعيد ما هذا الذي يحدث الناس؟ قال: وما ذاك يا أمير المؤمنين؟ قال: يقولون إنك في يوم من الأسبوع لا تخرج إليهم.

قال: يا أمير المؤمنين هذا اليوم أغسل فيه ثوبي، وليس عندي ثوب غيره، هل أخرج لهم بدون ثوب؟! فإني أبقىٰ حتىٰ يجف الثوب ثم أخرج إليهم.

قال: إنهم يقولون إنك لا تخرج إليهم في الليل. قال: يا أمير المؤمنين النهار لهم والليل لربي.

قال: وما هذه الغشية التي تصيبك؟ فبكىٰ وقال: يا أمير المؤمنين إني حضرت قتل خبيب بن عدي، وإني كلما تذكرت دعوته وقتله أغمي علي من الخوف من الله تبارك وتعالىٰ.

هذا حال خبيب، وأما عاصم بن ثابت رضي الله عنه؛ فإنه امتنع عن النزول إليهم ولم يستسلم، فقاتلهم حتىٰ قتلوه، ولكن البغض والحقد الذي في قلوب المشركين عظيم، وتَمَثَّل في أن قريشاً بعثت من يأتي لهم بجسد عاصم حتىٰ يتأكدوا أن عاصماً قد قتل وتشفىٰ قلوبها من الغل الذي فيها، فبعث الله تبارك وتعالىٰ مثل الظُلة من الدَّبَر([3])، فحمته فلم يستطيعوا أن يصلوا إليه، وكان عاصمٌ قد أعطىٰ الله تبارك وتعالىٰ عهداً أن لا يمس مشركاً ولا يمسه مشرك، وذلك لبغضه للمشركين، فوفاه الله تبارك وتعالىٰ عهده حتىٰ بعد موته.

ولذلك لما قيل لعمر ذلك قال: يحفظ الله العبد المؤمن بعد وفاته كما يحفظه في حياته.

 

([1])             لقتلهم.

([2])            بأحبال النبل.

([3])            نوع من الحشرات كالبعوض.