اشتد القتال في هذه المعركة العظيمة، وأنـزل الله نصره علىٰ المسلمين، وصدقهم وعده سبحانه وتعالى، فكشف المسلمون الكافرين عن المعسكر، وكانت الهزيمة علىٰ المشركين، قال الزبير بن العوام: والله لقد رأيتني أنظر إلىٰ خدم([1]) هند بنت عتبة وصواحبها مشمّرات ما دون أخذهن قليل ولا كثير([2]).

وفي حديث البراء رضي الله عنه: فلما لقيناهم هربوا، حتىٰ رأيت النساء يشتددن في الجبل، يرفعن سوقهن، قد بدت خلاخيلهنّ، فتبع المسلمون المشركين يضعون فيهم السلاح وينتهبون الغنائم، ومن هذا يتبين نصر الله للمسلمين في أول هذه المعركة، وكان النبي ﷺ قد أمر الرماة أن لا يتركوا مكانهم أبداً، ولكنهم لما رأوا الهزيمة، ورأوا النساء تفر، والرجال يفرون؛ ظنوا أن المعركة قد انتهت، فنـزلوا عن أماكنهم. وكان عبد الله بن جبير الأنصاري قائد الرماة يأمرهم أن لا يتحركوا وأن يبقوا في أماكنهم كما أمر النبي ﷺ، وردّوا عليه بأن القتال قد انتهىٰ ونـزلوا عن أماكنهم.

وخالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل كانا قائدي الفرسان، ولم يشاركا في هذه المعركـة؛ لأنه ما كان لهما دور؛ لأن المسلمـين كانـوا قد أخذوا الأماكن الصحيحة، فلما رأىٰ خالد بن الوليد الرماة قد تركوا مكانهم التف خلف الجبل وصاح في كفار قريش يناديهم، فرجع كفار مكة وصار المسلمون في الوسط بين فكي الكماشة، فوقع فيهم القتل وفرّ من فرّ من المسلمين بعد هذه الفوضىٰ التي رأوها، وأن الكفار صاروا يقتلون فيهم قتلاً ذريعاً لا يتركون أحداً إلا قتلوه ممن طالوه بأيديهم أو بسهامهم.

فمرّ أنس بن النضر رضي الله عنه بالمسلمين فقال: ما تنتظرون؟ قالوا: قُتِل رسول الله ﷺ، وذلك أنه أشيع أن النبي ﷺ قد قُتِل فيمن قُتِل من المسلمين، فقال لهم أنس: ما تصنعون بالحياة بعده، قوموا فموتوا علىٰ ما مات عليه رسول الله ﷺ. ثمّ قال: اللَّهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء ــ يعني المسلمين، وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء يعني المشركين، ثمّ تقدم فلقيه سعد بن معاذ فقال: أين يا أبا عمر؟ فقال أنس: واه لريح الجنة يا سعد، إني أجده دون أحد، ثمّ مضىٰ وقاتل القوم حتىٰ قتل، فلم يعرفه أحد إلا أخته ببنانه([3])، وذلك أنه وجد به بضع وثمانون طعنة أو ضربة سيف.

قال أنس بن مالك: أُفرد الرسول ﷺ يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش، فلما رهقوه قال: «من يردهم عنّا وله الجنة، أو هو رفيقي في الجنة؟»، فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتىٰ قتل، ثمّ قام الثاني فقاتل حتىٰ قتل، حتىٰ قتل السبعة بين يدي رسول الله ﷺ([4]).

وقد ثبت في «الصحيحين»([5]) أن النبي ﷺ كُسِرَت رباعيته([6]) وشُجَّ رأسه، فجعل يمسح الدم ﷺ ويقول: «كيف يفلح قوم شجّوا وجه نبيهم؟»، وأنـزل الله عز وجل: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ ٱلْأَمْرِ شَيءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ﴾  [آل عِمرَان: 128]، وفي رواية أن النبي ﷺ قال: «اللَّهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون».

 

([1])             الخدم: هي السيقان.

([2])            أي يستطيع أن يمسك بهن.

([3])            أخرجه البخاري (4043).

([4])            أخرجه مسلم (1789).

([5])            أخرجه البخاري (2903)، ومسلم (1791، 1792).

([6])            أسنانه.