بعد هذه الأحداث وانتهاء هذه السنة ألا وهي السنة الثانية من الهجرة؛ اجتمع أهل مكة وجمعوا ثلاثة آلاف مقاتل من قريش والحلفاء والأحابيش([1])، وأخذوا معهم النساء، وجهزوا هذا الجيش للانتقام، وكانت القيادة لأبي سفيان بن حرب بعد مقتل أبي جهل، وقيادة الفرسان لخالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل، وخرج هذا الجيش المكي بعد هذا الإعداد التام إلىٰ المدينة يريدون الانتقام لقتلاهم في بدر.

وبلغ النبي ﷺ هذا الأمر، فاستنفر الناس، فحمل الناس سلاحهم خوف المباغتة، لا يتركون السلاح حتىٰ في صلاتهم يخشون من دخول أهل مكة عليهم، وكان أهل المدينة من الأنصار كسعد بن معاذ وأسيد بن حضير وسعد ابن عبادة يقومون علىٰ حراسة النبي ﷺ.

وجمع النبي ﷺ كبار أصحابه وأخبرهم برؤيا رآها ﷺ فقال: «إني رأيت، والله خيراً رأيت بقراً يُذبح، ورأيت في ذباب سيفي ثلماً، ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة». فتأول البقر بنفر من أصحابه يُقتلون، وتأول الثلمة في سيفه في رجل يصاب من أهل بيته، وتأول الدرع بالمدينة.

ثم قال ﷺ: «أرىٰ أن نقاتلهم من المدينة، نتحصن في المدينة ونقاتلهم، فإن أقاموا بمعسكرهم أقاموا بشر مقام، وإن دخلوا المدينة قاتلناهم من الأزقة([2]) ومن فوق البيوت».

ووافقه علىٰ هذا كبار الصحابة، وممن وافقهم علىٰ ذلك عبد الله بن أبي ابن سلول، وقام جماعة من شباب الصحابة الذين فاتهم القتال في بدر، فقالوا: يا رسول الله إنّا كنا نتمنىٰ هذا اليوم، وندعو الله تبارك وتعالىٰ أن يبلغنا إياه، نخشىٰ أن يُظن أنّا جبنّا عنك، فقال النبي ﷺ: «لا بأس».

ثمّ دخل إلىٰ بيته ولبس أدراع القتال ﷺ، وهذا من بذل السبب، وكان الناس ينتظرونه ﷺ حتىٰ يخرج إليهم، فقال لهم سعد بن معاذ: استكرهتم رسول الله ﷺ علىٰ الخروج فردوا الأمر إليه.

فندموا علىٰ ما صنعوا فقالوا له: يا رسول الله، ما كان لنا أن نخالفك، فاصنع ما شئت، إنما هو رأي رأيناه إن أحببت أن تمكث في المدينة فافعل، فقال رسول الله ﷺ: «ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته([3]) أن ينزعه حتىٰ يحكم الله»([4]). فخرج النبي ﷺ إلىٰ القتال.

وبينما هم في الطريق رجع المنافق عبد الله بن أُبَيّ بن سلول بثلث الجيش قائلاً: لا أتوقع أن يكون قتال. وأنـزل الله تبارك وتعالىٰ في المنافقين: ﴿وَلِيَعْلَمَ ٱلَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَوِ ٱدْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَٱتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ﴾ [آل عمران: 167]، ونجح هذا المنافق باستدراج ثلاثمئة رجل من منافق وضعيف إيمان، ولكن أكثرهم كانوا من المنافقين، وهمّت طائفتان من المسـلمين من الأنصـار وهم بنـو حـارثة من الأوس وبنو سـلمة من الخزرج أن يرجعوا كذلك مع عبد الله بن أبي ابن سلول، ولكن الله ثبتهما، وأنـزل الله جل وعلا: ﴿إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَٱللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ﴾ [آل عمران: 122].

وبعد أن وصل جيش المؤمنين إلىٰ أحد، ووصل جيش الكفار كذلك نهىٰ النبي ﷺ الناس عن القتال حتىٰ يأمرهم، ولبس ﷺ درعين وحرّض أصحابه علىٰ القتال وحضّهم علىٰ الصبر في اللقاء، وبثّ فيهم روح الحماسة ﷺ.

ثمّ رفع سيفه وقال: «من يأخذ هذا السيف بحقّه؟». فقام إليه رجال. فقال النبي ﷺ لأبي دجانة: «خذه». فقال: يا رسول الله، وما حقّه؟ قال: «أن تضرب به وجوه العدو حتىٰ ينحني». قال: أنا آخذه بحقّه يا رسول الله. فأعطاه إياه، فلمّا أخذ السيف عصب علىٰ رأسه عصابة ــ أي خرقة ــ وجعل يتبختر([5]) بين الصفين. فقال رسول الله ﷺ: «إنها لمشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموطن»([6])؛ لأنه يغيظ الأعداء.

وتقارب الجمعان، وتدانت الفئتان، وبدأ القتال، وكان لواء المشركين مع طلحة بن أبي طلحة العبدري، وكان من فرسان قريش يسميه الناس كبش الكتيبة من شجاعته، وخرج علىٰ جمل يدعو إلىٰ المبارزة، فتقدّم إليه الزبير بن العوام، ووثب إليه وثبة الليث، حتىٰ صار معه علىٰ جمله، ثم اقتحم به الأرض([7])، وقام وذبحه رضي الله عنه، فكبّر رسول الله ﷺ وكبّر المسلمون، ثمّ قال النبي ﷺ للزبير: «لكل نبي حواري، وحواري الزبير»([8]).

 

([1])             وهم النُزَّع من القبائل، يعيشون في مكة وليسوا من أهلها.

([2])            الطرق الضيقة.

([3])            يعني لباس الحرب.

([4])            ذكره البخاري في كتاب الاعتصام (9/112)، وانظر: «طبقات ابن سعد» (2/38).

([5])            يمشي بفخر.

([6])            أخرجه البيهقي في «الدلائل» (3/234).

([7])            ألقاه إلىٰ الأرض.

([8])            أخرجه البخاري (3719)، ومسلم (2415)، من حديث جابر رضي الله عنه.