معركة بدر الكبرىٰ
13-03-2023
سببها أن عيراً لقريش جاءت من الشام بقيادة أبي سفيان، ولما قرب رجوعها؛ بعث النبي ﷺ طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد ليقوما باستكشاف خبرها، فوصلا إلىٰ مكان يقال له: الحوراء، مكثا حتىٰ مرَّ بهما أبو سفيان بالعير، فأسرعا إلىٰ المدينة، وأخبرا النبي ﷺ بالخبر، وأخبراه بالعدد، فأعلن النبي ﷺ في المسلمين قائلاً: «هذه عير قريش فيها أموالهم، فاخرجوا إليها لعل الله يُنَفِّلْكموها». ولم يعزم علىٰ أحد([1]).
واستعد الرسول ﷺ للخروج، وخرج معه ثلاثمئة وبضعة عشر رجلاً، ولم يتخذوا أُهبة كاملة، وخرج معهم فارسان بفرسين هما: الزبير بن العوام والمقداد بن الأسود، وكان معهم سبعون بعيراً، كل اثنين أو ثلاثة علىٰ بعير، وكان النبي ﷺ وعلي بن أبي طالب ومرثد بن أبي مرثد علىٰ بعير واحد، كل فترة يركب أحدهم وينـزل اثنان، وأعطىٰ النبي ﷺ لواء القيادة لمصعب بن عمير القرشي، وأعطىٰ علم كتيبة المهاجرين لعلي بن أبي طالب، وأعطىٰ علم كتيبة الأنصار لسعد بن معاذ، وجعل قيادة الميمنة للزبير، وعلىٰ الميسرة المقداد بن عمرو، والقيادة العامة بيد النبي ﷺ.
وكان أبو سفيان يتحسس الأخبار ويخاف بعد وقعة ابن الحضرمي، فعلم أن محمداً ﷺ قد خرج لملاقاة العير، فاستأجر رجلاً يقال له: ضمضم بن عمرو؛ مستصرخاً لقريش بالنفير ليمنعوه من محمد وأصحابه، فخرج ضمضم إلىٰ مكة سريعاً، فصرخ ببطن الوادي، وجدع أنف البعير وحوّل رحله، وشق قميصه، وكل هذه الأشياء للإثارة كانت تستخدمها العرب في السابق لكي يبين أن الأمر جلل، ومن ذلك أن العرب كانت تقول: أنا النذير العريان، يعني أن المسألة وصلت إلىٰ حد لا يحتمل التسامح ولا التراخي. وقال: يا معشر قريش اللطيمة اللطيمة، أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه، لا أرىٰ أن تدركوها.. الغوث الغوث. فتحفّز الناس سراعاً، وقالوا: أيظن محمد وأصحابه أن تكون كعير ابن الحضرمي، كلا والله ليعلمنّ غير ذلك، فكانوا بين رجلين: إما خارج وإما باعث مكانه رجلاً، وأوعبوا في الخروج، فلم يتخلف من أشرافهم أحد سوىٰ أبي لهب عم النبي ﷺ، أتىٰ برجل عليه دين، فقال: أسقط عنك ديني واخرج بدلي، وحشدوا من حولهم من قبائل العرب، ولم يتخلف من بطون قريش إلا بنو عدي، فإنهم لم يخرجوا معهم، وكان هذا الجيش نحو ألف وثلاثمئة مقاتل، معهم ستمئة فرس.
ولو عملنا مقارنة لوجدنا أن النبي ﷺ ومن معه ثلاثمئة وبضعة عشر، والمشركون ألف وثلاثمئة؛ المسلمون معهم فرسان بقائدين، المشركون ستمئة فرس، فهذا عدد المسلمين وعدتهم، وذاك عدد المشركين وعدتهم، المسلمون خرجوا للعير، الكفار خرجوا للقتال حتىٰ الاستعداد النفسي مختلف.
إذاً الآن المشركون متفوقون في ثلاثة أمور:
أولاً: العدد.
ثانياً: العدة.
ثالثاً: الاستعداد النفسي.
وكانت قيادة المشركين لأبي جهل عمرو بن هشام، وخرجوا من ديارهم، كما قال تبارك وتعالىٰ: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَٱلَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ ٱلنَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ [الأنفال: 47]، واستطاع أبو سفيان أن ينجو بالعير، وذلك أنه لما سمع أن النبي ﷺ قد خرج غَيَّر طريقه، وقصة تغيير طريقه تدل علىٰ ذكائه؛ فإن كان يسير علىٰ الطريق المعروف من الشام إلىٰ مكة، ولكنه كان حذراً متيقظاً، ولما اقترب من بدر، لقي مجدي بن عمرو وكان يعيش في ذاك المكان، قال له: هل مرّ بك جيش؟ فقال مجدي بن عمرو: ما رأيت أحداً أنكره إلا إني رأيت راكبَين أناخا علىٰ هذا التل، ثمّ استقيا في شن لهما ثمّ انطلـقا.
فـذهب أبو سفيان إلىٰ مكان الراحلتين، وأخذ من أبعار بعيريهما، ففتَّه فإذا فيه النواة([2])، فقال: هذه والله علائف يثرب. فرجع وغير طريقه ونجىٰ بالعير، فأرسل إلىٰ أهل مكة: أن ارجعوا فقد نجت العير، وإنكم إنما خرجتم لتحرزوا أموالكم وعيركم، فإنها قد نجت.
فقام طاغية قريش أبو جهل فقال: والله لا نرجع حتىٰ نَرِدَ بدراً، فنقيم بها ثلاثاً، فننحر الجزور، ونطعم الطعام، ونسقي الخمر، وتعزف لنا القيان، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا، فلا يزالون يهابوننا أبداً.
فقام الأخنس بن شريق وأمر بالرجـوع، فعصـوه، فقـال: أما أنا فراجع. ورجع معه بنو زهرة، وكانوا قريباً من ثلاثمئة، فبقي كفار مكة بألف رجل.
واجتمع النبي ﷺ ــ لما سمع بخروج أهل مكة ــ بأصحابه يستشيرهم ، فقال: «هؤلاء أهل مكة قد خرجوا، فماذا ترون؟». فقام أبو بكر الصديق فقال وأحسن رضي الله عنه، ثم قام عمر فقال وأحسن، ثمّ قام المقداد فقال وأحسن، وكان من مقولة المقداد بن عمرو رضي الله عنه: يا رسول الله امض لما أراك الله، فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسىٰ: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ولكن نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلىٰ برك الغماد([3]) لجالدنا معك مَنْ دونه حتىٰ تبلغه. فقال له الرسول خيراً ودعا له بخير.
قال عبد الله بن مسعود: والله لتمنيت أن لي موقف المقداد. لِما رأىٰ من فرح النبي ﷺ بتلك الكلمات، ولكن ما زال النبي ﷺ يريد غيرها؛ لأن أبا بكر وعمر والمقداد كل هؤلاء من المهاجرين، والنبي ﷺ أراد كلمة من الأنصار؛ لأن الأنصار إنما بايعوا النبي ﷺ علىٰ أنهم يدافعون عنه في المدينة وينصرونه في المدينة، ولم يبايعوه علىٰ القتال خارج المدينة، فأراد الرسول ﷺ منهم كلمة، هل هم موافقون وراضون؟ أو أنهم مصرون علىٰ أنهم يدافعون عنه في المدينة فقط؟
فقال: «أشيروا عليَّ»، فتكلم سعد بن معاذ وكان قائد الأنصار في هذه المعركة وهو صاحب اللواء، فقال: كأنك تريدنا يا رسول الله؟ فقال النبي ﷺ: «أجل أريدكم أن تتكلموا ولا أريد أن أجبركم علىٰ قتال، ولا أريد أن أكرهكم عـليه»، فقـال سعد بن معاذ مقولة أفرحت وأثلجت صدر النبي ﷺ قال: يا رسول الله قد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك علىٰ ذلك عهودنا ومواثيقنا علىٰ السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقىٰ بنا عدواً غداً، إنّا لصُبر في الحرب، صُدُق في اللقاء، ولعل الله أن يريك منا ما تقرّ به عينك، فَسِرْ بنا علىٰ بركة الله.
وفي رواية: أن سعد بن معاذ قال للرسول ﷺ: لعلك تخشىٰ أن تكون الأنصار ترىٰ حقاً عليها أن لا تنصرك إلا في ديارهم! وإني أقول عن الأنصار وأجيب عنهم: فاظعن حيث شئت، وصل حبل من شئت، واقطع حبل من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وأعطنا ما شئت، وما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت، وما أمرت فيه من أمر فأمرنا تبع لأمرك، فوالله لئن سرت بنا حتىٰ تبلغ البرك من غمدان لنسيرن معك، فوالله لئن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك.
فسُرّ النبي ﷺ بقول سعد، ونشط لذلك ثمّ قال: «سيروا وأبشروا، فإن الله تعالىٰ قد وعدني إحدىٰ الطائفتين، والله لكأني الآن أنظر إلىٰ مصارع القوم»([4]). ثمّ ارتحل الرسول ﷺ ونـزل قريباً من بدر.
([2]) نواة التمر الذي أكلته الإبل.
([4]) أخرجه بنحوه ابن أبي شيبة في «المصنف» (36660)، وأحمد (3698)، وانظر: «سيرة ابن هشام» (1/615).