أخرج البخاري([1]) عن أنس رضي الله عنه عن أبي بكر رضي الله عنه قال: كنت مع النبي ﷺ في الغار فرفعت رأسي فإذا أنا بأقدام القوم فقلت: يا نبي الله لو أن بعضهم طأطأ بصره رآنا. فقال النبي ﷺ: «اسكت يا أبا بكر، اثنان الله ثالثهما». وفي لفظ: «ما ظنّك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما»([2]).

ولما هدأت قريش في الطلب تهيأ النبي ﷺ للخروج من الغار ليتجه إلىٰ المدينة، وذلك أن عبد الله بن أبي بكر كان يأتيهما بالأخبار، وكان مع النبي ﷺ رجل أجير وهو عبد الله بن أريقط، كان دليلاً للنبي ﷺ وأبي بكر وكان كافراً، ومع هذا استعان به النبي ﷺ، ومنه قال أهل العلم: تجوز الاستعانة بالكافر عند الحاجة إليه.

وكان النبي ﷺ قد أعطىٰ عبد الله بن أريقط الراحلتين وواعده في غار ثور بعد ثلاث ليال، والنبي ﷺ استأمنه وهو كافر، وكان من الممكن أن يخبر قريشاً بمكان النبي ﷺ وأبي بكر ويأخذ المئة ناقة، ولكنه ما استأمنه إلا لأنه كان أميناً، فلما كانت ليلة الاثنين جاءهما عبد الله بن أريقط بالراحلتين وكانتا لأبي بكر، فقال أبو بكر للرسول ﷺ: بأبي أنت وأمي يا رسول الله خذ إحدىٰ راحلتي هاتين ــ يعني لك ــ وقرّب إليه أفضلهما، فقال الرسول ﷺ: «بالثمن»، وأتتهما أسماء بنت أبي بكر بسُفرتهما ونسيت أن تجعل لها عصاماً([3])، فلما ارتحلا ذهبت تعلق السُفرة، فإذا ليس لها عصام فشقت نطاقها قسمين، فعلقت السُفرة بأحد هذين القسمين، وانتطقت بالآخر، ومنها لُقِّبَتْ بذات النطاقين([4]).

أخرج البخاري([5]) عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: أسرينا ليلتنا ومن الغد حتىٰ قام قائم الظهيرة، وخلىٰ الطريق لا يمر فيه أحد، فرفعت لنا صخرة طويلة لها ظل لم تأتِ عليها الشمس فنـزلنا عندها، وسويت للنبي ﷺ مكاناً بيدي ينام عليه، وبسطت عليه فروة، وقلت: نم يا رسول الله، وأنا أنفض لك ما حولك. فنام وخرجت أنفض ما حوله([6])، فإذا أنا براعٍ مقبل إلىٰ الصخرة يريد منها مثل الذي أردنا، فقلت له: لمن أنت يا غلام؟ فقال: لرجل من أهل المدينة أو مكة. قلت: أفي غنمك لبن؟ قال: نعم. قلت: أفتحلب؟ قال: نعم. فأخذ شاة فقلت: انفض الضرع من التراب والشعر والقذىٰ. فحلب في كعب كثبة من لبن([7])، ومعي إداوة حملتها للنبي ﷺ يرتوي منها يشرب ويتوضأ، فأتيت النبي ﷺ فكرهت أن أوقظه فوافقت حين استيقظ، فصببت من الماء علىٰ اللبن حتىٰ برد أسفله، فقلت: اشرب يا رسول الله، فشرب حتىٰ رضيت. ثمّ قال: «ألم يئن الرحيل؟». قلت: بلىٰ. قال: فارتحلنا.

 

([1])             «صحيح البخاري» (3922).

([2])            أخرجه البخاري (3653).

([3])            يعني شيئاً تربط به.

([4])            ما يُربط علىٰ البطن.

([5])            «صحيح البخاري» (3615).

([6])            ينظر إلىٰ الطريق.

([7])            يعني إناءً صغيراً.