وفي شهر صفر من السنة الرابعة عشرة من مبعث النبي ﷺ اجتمع أهل مكة علىٰ أمر عظيم ما اجتمعوا علىٰ مثله قط، وذلك أنهم اجتمعوا في دار الندوة، وتعاقدوا علىٰ قتل النبي ﷺ، وهذا الرأي كان رأي أبي جهل رأس قريش في ذلك الوقت.

قال أبو جهل: والله إن لي فيه رأياً ما أراكم وقعتم عليه بعد. قالوا: وما هو يا أبا الحكم؟ قال: أرىٰ أن نأخذ من كل قبيلة فتىًٰ شاباً جلداً نسيباً وسيطاً فينا، ثمّ نعطي كل فتىًٰ منهم سيفاً صارماً ثم يعمدون إليه([1]) فيضربونه بها ضربة رجل واحد، فيقتلونه ونستريح منه، فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعاً، فلم يقدر بنو عبد مناف علىٰ حرب قومهم جميعاً، فيرضون منّا بالعقل([2])، فعقلناه لهم.

وبعد هذا الاجتماع الخطير أرسل الله تبارك وتعالىٰ جبريل عليه السلام، وأخبر النبي ﷺ أن الله يأمره بالهجرة، فذهب النبي في الهاجرة قبيل الظهر إلىٰ أبي بكر الصديق رضي الله عنه ليبرم معه مراحل الهجرة.

قالت عائشة: بينما نحن جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة، قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله ﷺ متقنعاً. وذلك في ساعة لم يكن يأتينا فيها. فقال أبو بكر: فداء له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر.

فجاء رسول الله ﷺ فاستأذن فأذن له، فدخل فقال النبي ﷺ لأبي بكر: «أَخرج مَن عندَك». فقال أبو بكر: إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله، فقال النبي ﷺ: «إني قد أُذن لي في الخروج». فقال أبو بكر: الصحبة بأبي أنت يا رسول الله؟ فقال له رسول الله ﷺ: «نعم»([3]).

فبقي النبي ﷺ إلىٰ عتمة الليل، وإذا كفار مكة عند باب النبي ﷺ يريدون قتله إذا خرج، وفيه أنزل الله تبارك وتعالىٰ: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَاكِرِينَ﴾ [الأنفال: 30]، هذا مكرهم، وهو أن اجتمعوا علىٰ قتل النبي ﷺ، وأن يقتله شباب أقوياء فيتفرق دم النبي ﷺ في القبائل، فيقبل بنو عبد مناف الدية.

ولننظر إلىٰ مكر الله تبارك وتعالىٰ كيف صنع الله بهم، كما قال جل وعلا: ﴿إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا وَأَكِيدُ كَيْدًا فَمَهِّلِ ٱلْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا﴾ [الطارق: 15 ــ 17] قال رسول الله ﷺ لعلي بن أبي طالب: «نَمْ علىٰ فراشي، وتسجَّ ببردي، فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم».

وهذا تطمين من النبي ﷺ لعلي رضي الله عنه، وقد أبقىٰ النبي ﷺ علياً في مكة حتىٰ يرد الأمانات التي عنده لأهل مكة.

ونريد أن ننبه إلىٰ أمرين اثنين نرىٰ أنهما من أهم الأمور:

أولهما: أن كفار مكة كانوا يقولون عن النبي ﷺ: كاذب ساحر شاعر مجنون، وغير ذلك من الصفات التي اتهموه بها، وهم في هذا كاذبون فهم لا يصدقون ما يقولون، إذ كانوا يضعون أماناتهم عند النبي ﷺ، فهل يجوز أن يعطي عاقلٌ الأمانة لرجل يرىٰ أنه كذاب أو مجنون أو أنه ساحر؟! هذا لا يمكن أبداً، فدل هذا علىٰ أنهم لا يكذبونه، كما قال الله تبارك وتعالىٰ: ﴿ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ ٱلظَّالِمِينَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ [الأنعام: 33].

الأمر الثاني: أمانة النبي ﷺ؛ فلما أرادوا قتله لم يقل: أنا آخذ أموالهم لأنهم يريدون قتلي، فأنا أستحقها، قال ﷺ: «أدّ الأمانة إلىٰ من ائتمنك، ولا تخن من خانك»([4]) ، أي وإن خان هو فأنت لا تخون، فالمؤمن لا يخون أبداً، فتبقىٰ أخلاق المؤمن شامخة عالية ظاهرة، وإن غدر مَنْ غدر من الكافرين.

فلما عزم النبي ﷺ علىٰ الخروج من بيته ﷺ وأولئك الشبان الأقوياء المسلحون ينتظرونه عند الباب ليقتلوه؛ ألقىٰ الله تبارك وتعالىٰ عليهم النوم جميعاً، وخرج إليهم النبي ﷺ وأخذ حفنةً من البطحاء([5])، فجعل يذره علىٰ رؤوسهم.

وكان الله قد أخذ أبصارهم، فلا يرونه، والنبي ﷺ يتلو: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ﴾ [يس: 9]، فلم يبق منهم رجل إلا وضع النبي ﷺ علىٰ رأسه تراباً، ومضىٰ إلىٰ بيت أبي بكر فخرجا من خوخة([6]) في دار أبي بكر ليلاً، حتىٰ لحقا بغار ثور اتجاه اليمن، وظل مريدو قتل النبي ﷺ واقفين حتىٰ جاءهم رجل ممن لم يكن معهم، ورآهم عند الباب فقال لهم: ماذا تنتظرون؟ قالوا: محمداً. قال: خبتم وخسرتم قد والله مرّ بكم. وذرّ علىٰ رؤوسكم التراب وانطلق لحاجته.

فوضعوا أيديهم علىٰ رؤوسهم، فوجدوا التراب فقاموا ينفضونه، وقالوا: والله ما أبصرناه ثمّ نظروا داخل البيت فرأوا علياً، قالوا: هذا والله محمد إنه نائم. فلم يبرحوا كذلك حتىٰ أصبحوا وقام علي عن الفراش، فسُقط في أيديهم وقالوا له: أين محمد؟ قال: لا علم لي.

ولما كان النبي ﷺ يعلم أن قريشاً ستجدُّ في الطلب، وأن الطريق الذي ستتجه إليه الأنظار هو المدينة، كان من ذكائه ﷺ أن سلك طريقاً آخر يضاده تماماً وهو طريق اليمن، مشىٰ خمسة أميال في اتجاه اليمن، والأنظار كلها والعقول تقول: إن النبي ﷺ سيهاجر إلىٰ المدينة، وهكذا كان، ولكنه أراد أن يعمّي عليهم الأمر، فذهب إلىٰ جهة اليمن ومكث في مكان يقال له جبل ثور ثلاثة أيام، وكان يمشي متجهاً إلىٰ غار ثور علىٰ أطراف قدميه، لأن الطريق كان وعراً، فحفيت قدماه ﷺ، وطفق يشتد به الأمر حتىٰ انتهىٰ إلىٰ الغار في قمة الجبل([7]).

ولما انتهيا إلىٰ الغار قال أبو بكر: والله ما تدخله يا رسول الله حتىٰ أدخله قبلك، فإن كان فيه شيء أصابني دونك. فدخل أبو بكر فكسحه([8])، ووجد في جانبه ثقباً فشق إزاره وسده به وبقي ثقبان آخران فألقمهما رجليه، ثمّ قال لرسول الله ﷺ: ادخل، فدخل رسول الله ﷺ ووضع رأسه في حجر أبي بكر ونام، فلُدغ أبو بكر في رجله من الجحر، فلم يتحرك مخافة أن ينتبه الرسول ﷺ، فسقطت دموعه من شدة الألم علىٰ وجه الرسول ﷺ. فقال رسول الله: «ما لك يا أبا بكر؟». قال: لُدغت فداك أبي وأمي. فتفل رسول الله ﷺ مكان اللدغة، فذهب ما يجده من ألم.

وهذا أيضاً يبين لنا أمرين اثنين:

الأول: شدة محبتهم للنبي ﷺ، حتىٰ إنه يلدغ فلا يتحرك حتىٰ لا يؤذي النبي ﷺ وهو نائم.

الثاني: بركة دعاء النبي ﷺ، وكيف أنه مجرد أن تفل في جرحه أذهب الله جل وعلا عنه ما يجده.

وظلا في الغار ثلاث ليال: ليلة الجمعة وليلة السبت وليلة الأحد، وكان عبد الله بن أبي بكر يبيت عندهما. قالت عائشة: وهو غلام شاب ثقف لقن، فيدلج([9]) من عندهما بسحَر، فيصبح مع قريش بمكة كبائت فيها، فلا يسمع أمراً يُكتادان به إلا وعاه، حتىٰ يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام، وكان يرعىٰ غنمه عليهما عامر بن فهيرة مولىٰ أبي بكر، فيريحها عليهما حين تذهب ساعة من العشاء، فيبيتان في رسل([10])، وكان يفعل ذلك كل ليلة من تلك الليالي، وكان يأتي إلىٰ أثر عبد الله بن أبي بكر وهو راجع وهو ذاهب، فيمشي بالغنم حتىٰ يذهب أثره.

وأما قريش؛ فقد جنّ جنونها حينما تأكد لديها أن النبي ﷺ قد أفلت في صبيحة الليلة التي عزموا فيها علىٰ قتله، وحاولوا في علي بن أبي طالب رضي الله عنه وآذوه حتىٰ يعلمهم مكان النبي ﷺ، فلم يعلمهم بشيء، حتىٰ إذا يئسوا منه ذهب أبو جهل إلىٰ بيت أبي بكر الصديق، فخرجت إليه أسماء بنت أبي بكر فقال لها: أين أبوك؟ قالت: لا أدري. فرفع أبو جهل يده فلطم خدّها لطمة طرح منها قرطها([11])، وجعلت قريش مكافأة قدرها مئة ناقة لكل من يدلها علىٰ مكان النبي ﷺ، سواء كان حياً أو ميتاً، وجَدّتِ الفرسان والمشاة وقصّاص الأثر في الطلب؛ لأن مئة ناقة شيء عظيم، وانتشروا في الجبال والوديان يبحثون عن النبي ﷺ ولكن دون فائدة.

 

([1])             أي إلىٰ النبي ﷺ.

([2])            أي ندفع الدية.

([3])            أخرجه البخاري (2031)، من حديث عائشة رضي الله عنها.

([4])            أخرجه أبو داود (3535)، والترمذي (1264).

([5])            يعني من الرمال.

([6])            الخوخة: الباب الصغير.

([7])            يسمىٰ الآن بغار ثور، معروف في جهة مكة من جهة اليمن، خلف منطقة العزيزية.

([8])            نظفه.

([9])            أي: يمشي ليلاً.

([10])          يأتيهما باللبن قبل أن يناما.

([11])           ما يكون في الأذن مما تتزين به النساء.