الإسراء والمعراج
13-03-2023
قيل: في السنة الثانية عشرة من البعثة، وقيل غير ذلك، ولكن هذا هو المشهور أنه قبل هجرته بسنة وشهرين كان الإسراء والمعراج، في يوم الاثنين من شهر ربيع الأول.
قال ﷺ مبيناً حادثة الإسراء التي وقعت له: إنه بينما كان في الحطيم([1]) بين النائم واليقظان عند البيت إذ سمع قائلاً: أحد الثلاثة بين الرجلين، وذلك بعدما صلىٰ لأصحابه صلاة العتمة بمكة.
قال رسول الله ﷺ: «فإذا جبريل وهو أقرب الناس شبهاً بدحية بن خليفة الكلبي، فأخذوني وانطلقوا بي إلىٰ زمزم، فلم يكلموني حتىٰ وضعوني عند بئر زمزم، وأتاني جبريل ففرج صدري فشق ما بين هذه إلىٰ هذه([2]) إلىٰ مراقي البطن([3]) حتىٰ فرغ من صدري وجوفي، فغسله بماء زمزم بيده حتىٰ أنقىٰ جوفي، فاستخرج قلبي فغسل بماء زمزم، ثم أُتيت بطست من ذهب فيه تور من ذهب مملوءة حكمة وإيماناً، فأفرغه في صدري، فغسل قلبي، ثمّ حشا به صدري ولغاديدي([4])، ثمّ أطبقه وقال: قلب وكيع([5])، فيه أذنان سميعتان، وعينان بصيرتان، محمد رسول الله المقفّي، الحاشر، خلقك قيّم، ولسانك صادق، ونفسك مطمئنة».
قال النبي ﷺ: «ثمّ أُتيت بالبراق وهو دابة أبيض طويل فوق الحمار ودون البغل، يضع حافره عند منتهىٰ طرفه، فَرَكِبْته حتىٰ أتيتُ بيت المقدس، فربطته بالحلقة التي يربط بها الأنبياء، ثمّ دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين، ثمّ أخذ بيدي فانطلق بي حتىٰ أتىٰ السماء الدنيا، فضرب باباً من أبوابها فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل؟ قيل: من معك؟ قال: محمد ﷺ. قيل: وقد أُرسل إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحباً به وأهلاً به فنعم المجيء جاء يستبشر به أهل السماء، لا يعلم أهل السماء بما يريد الله به في الأرض حتىٰ يُعلِمهم ففُتح لنا.
فلما خلصت علوت من السماء الدنيا، فإذا فيها آدم رجل قاعد علىٰ يمينه أسوِدة وعلىٰ يساره أسوِدة، إذا نظر قِبل يمينه ضحك، وإذا نظر قِبل يساره بكىٰ.
قلت لجبريل: من هذا؟ قال: هذا أبوك آدم ﷺ وهذه الأسودة عن يمينه وعن شماله نَسَم بنيه، فأهل اليمين منهم أهل الجنة، والأسودة التي عن شماله أهل النار، فإذا نظر عن يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكىٰ فسَلِّم عليه، فسلمت عليه فرد السلام. فقال: مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح، نِعم الابن أنت، ودعا لي بخير.
ثمّ صعد بي حتىٰ أتىٰ السماء الثانية، فاستفتح فقال لخادمها: افتح، فقالت الملائكة له مثل ما قالت له في السماء الأولىٰ، فلما خلصت([6]) إذا بيحيىٰ وعيسىٰ، وهما ابنا خالة فقلت: من هذان؟ قال: هذان يحيىٰ وعيسىٰ فسَلِّم عليهما فسلّمت عليهما، فردا السلام ثمّ قالا: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح ودعوا لي بخير.
ثمّ صعد بي إلىٰ السماء الثالثة، فاستفتح، فقالوا له مثل ما قالوا في الأولىٰ والثانية، فلما خلصت إذا أنا بيوسف ﷺ، وإذا هو قد أُعطي شطر الحُسْن([7])، فقال لي: هذا يوسف فسَلِّم عليه، فسلّمت عليه، فرد السلام، ثمّ قال: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح ودعا لي بخير.
ثمّ صعد بي حتىٰ أتىٰ السماء الرابعة، فاستفتح، فقالوا له مثل ذلك، فلما خلصت فإذا أنا بإدريس. قلت: من هذا؟ قال: هذا إدريس فسَلِّم عليه، فسلّمت عليه فرد عليّ، ثمّ قال: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح، ودعا لي بخير، قال الله تعالىٰ: ﴿وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا﴾ [مريم: 57].
ثمّ صعد بي حتىٰ أتىٰ السماء الخامسة، فاستفتح، فقالوا له مثل ذلك، فلما خلصت فإذا أنا بهارون عليه السلام، قال: هذا هارون فسَلِّم عليه، فسلّمت عليه فرَدَّ، ثمّ قال: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح، ودعا لي بخير.
ثم صعد بي حتىٰ أتىٰ السماء السادسة، فاستفتح، فقالوا له مثل ذلك، فلما خلصت فإذا أنا بموسىٰ عليه السلام وذلك بتفضيل كلام الله له، فقال موسىٰ: رَبِّ لم أظن أن يرفع عليَّ أحد، قلت: من هذا؟ قال: موسىٰ، فسَلِّم عليه، فسلّمت عليه فرد، ثم قال: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح، ودعا لي بخير، فلما تجاوزت بكىٰ قيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكي لأن غلاماً بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي([8]).
ثمّ صعد بي حتىٰ أتىٰ السماء السابعة، فاستفتح، فقالوا له مثل ذلك، فلما خلصت فإذا أنا بإبراهيم ﷺ مسنداً ظهره إلىٰ البيت المعمور، شيخ جليل مهيب، قلت: من هذا؟ قال: هذا أبوك إبراهيم ﷺ فسَلِّم عليه، فسلّمت عليه فرد السلام، ثمّ قال: مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح.
ثمّ رفع لي البيت المعمور في السماء السابعة، والذي يقال له: الضًّراح وهو بحيال الكعبة فوقها حرمته في السماء كحرمة البيت في الأرض، فقلت: يا جبريل ما هذا؟ قال: هذا البيت المعمور يدخله كل يوم يصلي فيه سبعون ألف ملك، إذا خرجوا منه لم يعودوا فيه أبداً([9]).
ثمّ علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله عز وجل حتىٰ جاء سدرة المنتهىٰ، قال: ثمّ رُفعت لي سدرة المنتهىٰ، وهي في السماء السابعة إليها ينتهي ما يُعرج به من الأرض فيُقبض منها، وإليها ينتهي ما يُهبط به من فوقها فيُقبض منها، فإذا نبقها مثل قلال هجر([10])، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة، يسير الراكب في ظل الفنن منها([11]) مئة سنة، يستظل بالفنن منها مئة راكب، فقال: هذه سدرة المنتهىٰ، وإذا أربعة أنهار تخرج من أصلها، نهران باطنان ونهران ظاهران، قلت: ما هذان يا جبريل؟ قال: أما النهران الباطنان فنهران في الجنة، وأما النهران الظاهران فالنيل والفرات. ثمّ أُتيت بإناء من خمر وإناء من لبن وإناء من عسل، فأخذت اللبن، فقال: أصبت، أصاب الله بك الفطرة التي أنت عليها وأمتك.
ثمّ أُدخلت الجنة، فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ([12])، وإذا ترابها المسك، فسمع من جانبها وجساً([13])، قال: يا جبريل ما هذا؟ قال: هذا بلال. قال: فسمعت خشفة([14])، فقلت: ما هذه الخشفة؟ فقيل: هذه الرميصاء بنت ملحان امرأة أبي طلحة.
قال: بينما أنا أسير في الجنة إذا أنا بقصر أبيض، فقلت: لمن هذا يا جبريل؟ ورجوت أن يكون لي فقال: لعمر بن الخطاب. ثمّ سرت هنيهة فرأيت قصراً هو أحسن من القصر الأول من ذهب مربع يسمع فيه ضوضاء، بفنائه جارية تتوضأ إلىٰ جانب القصر، فقلت: لمن هذا القصر يا جبريل؟ ورجوت أن يكون لي فقال: هو لرجل من أمة محمد. قلت: فأنا محمد لمن هذا القصر؟ قال: لرجل من العرب. قلت: أنا عربي لمن هذا القصر؟ قال: لشاب من قريش. قال: فظننت أني أنا هو فقلت: أنا قرشي لمن هذا القصر؟ قال: لعمر بن الخطاب، وإذا فيه من الحور العين، فأردت أن أدخله فأنظر إليه فذكرت غيرته فوليت مدبراً.
وإذا بنهر أشد بياضاً من اللبن وأحلىٰ من العسل، حافّتاه قباب اللؤلؤ المجوف، عليه قصر من لؤلؤ وزبرجد، فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذي أعطاك ربك، فضرب بيده، فإذا طينه مسك أذفر([15])، فضربت بيدي إلىٰ تربته في مجرىٰ الماء، فإذا مسكة مُذَفرة، فإذا حصاه لؤلؤ.
ومَرَّ برائحة طيبة، فقال: ما هذه الرائحة يا جبريل؟ قال: هذه رائحة ماشطة بنت فرعون وأولادها، قال النبي ﷺ لجبريل وما شأنها؟ قال: بينما هي تمشط ابنة فرعون إذ سقطت المدرىٰ من يدها([16])، فقالت: بسم الله، فقالت لها بنت فرعون: أبي([17])؟ فقالت لها الماشطة: لا، ولكن ربي وربك ورب أبيك، قالت: أولك رب غير أبي؟ قالت: نعم ربي وربك ورب أبيك الله. قالت: أقول له إذاً. قالت: قولي له، فدعاها، فقال لها: يا فلانة أولك رب غيري؟ قالت: نعم، ربي وربك الله عز وجل الذي في السماء. قال جبريل: فأمر ببقرة من نحاس([18])، فأُحميت، ثمّ أُمر بها لتلقىٰ هي وأولادها فيها، فقالت له الماشطة: إن لي إليك حاجة. قال: وما هي؟ قالت: أن تجمع عظامي وعظام ولدي في ثوب واحد وتدفننا. قال: ذلك لك علينا لما لك علينا من الحق، فأمر بأولادها فألقوا في البقرة بين يديها واحداً واحداً إلىٰ أن انتهىٰ ذلك إلىٰ صبي لها مرضَع، وكأنها تقاعست من أجله، فتكلم الرضيع بإذن الله تبارك وتعالىٰ، وقال لها: يا أمه، قعي ولا تقاعسي، اصبري فإنك علىٰ الحق، اقتحمي فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، ثم ألقيت مع ولدها».
[فكان هذا من الأربعة الذين تكلموا وهم صبيان، وهم عيسىٰ عليه السلام، وابن ماشطة بنت فرعون، وصاحب جريج، وولد المرأة التي ألقيت في الأخدود في قصة أصحاب الأخدود].
فنظر النبي ﷺ في النار فإذا قوم يأكلون الجيَف، فقال: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس، ورأىٰ رجلاً أحمر أزرق جعداً شعثاً إذا رأيته، قلت: من هذا يا جبريل؟ قال: هذا عاقر الناقة([19]).
ومرّ علىٰ قوم تُقرض شفاههم وألسنتهم بمقاريض من نار، فقال: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء خطباء أمّتك الذين يقولون ما لا يفعلون، الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون.
وقال ﷺ: «لمّا عرج بي ربي عز وجل مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم، قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم». ورأىٰ ﷺ الجنّة والنّار ووعد الآخرة أجمع.
قال ﷺ: «ثمّ عُرج بي حتىٰ ظهرت لمستوىٰ أسمع فيه صريف الأقلام، ومررت بالملأ الأعلىٰ عند سدرة المنتهىٰ، عندها جنة المأوىٰ، إذ يغشىٰ السدرة ما يغشىٰ، فلمّا غشيها من أمر الله ما غشي تغيرت، فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها، عليها السندس والاستبرق، وغشيها الملائكة فراش من ذهب، وتحولت ياقوتاً أو زمرداً أو نحو ذلك، وألوان ما أدري ما هي.
قال: ثمّ فُرضت علي الصلاة خمسون صلاةً كل يوم، فأوحىٰ الله إليَّ ما أوحىٰ، ثم رفع جبريل رأسه، ورأيته في خلقه الذي خُلق عليه عند سدرة المنتهىٰ في صورته له ستمئة جناح في حُلة من رفرف قد سدّ الأفق ينفض من ريشه من التهاويل والدرّ والياقوت ما الله به عليم، ووجد ﷺ اسمه مكتوباً في السماء محمد رسول الله.
فنزلت فرجعت فمررت علىٰ موسىٰ عليه السلام فاحتبسه موسىٰ، فقال: يا محمد بم أُمرت؟ قلت: أُمرت بخمسين صلاة في اليوم والليلة. فقال له: إنّي عالجت بني إسرائيل قبلك، وإن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة في اليوم والليلة، وإني والله قد جربت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشدّ المعالجة، فارجع إلىٰ ربك فاسأله التخفيف لأُمتك.
فالتفت النبي ﷺ إلىٰ جبريل كأنه يستشيره في ذلك فأشار إليه جبريل أن نعم إن شئت، فرجع به جبريل إلىٰ ربه تبارك وتعالىٰ، فقال: يا رب خفف علىٰ أمتي، فإن أمتي لا تستطيع.
قال: فحطّ عني خمساً، فرجعت إلىٰ موسىٰ، فقلت: حطّ عني خمساً. فقال موسىٰ: إن أمتك لا تستطيع، فارجع إلىٰ ربك فاسأله التخفيف.
وما زال النبي ﷺ بين ربه وموسىٰ حتىٰ أمره الله تبارك وتعالىٰ بخمس صلوات، قال: فرجعت فأمرت بخمس صلوات كل يوم. قال: يا محمد. قال: لبيك وسعديك. قال: إنهن خمس صلوات كل يوم وليلة لكل صلاة عشر فذلك خمسون صلاة، هي خمس وهي خمسون لا يبدل القول لديّ».
ولو نظرنا الآن إلىٰ أحوال المسلمين وكيف أنهم يتثاقلون عن هذه الصلوات الخمس، كيف لو كان الأمر كما كان في أوله؟ كيف لو كانت خمسين صلاة؟ من سيؤديها؟ من سيحرص عليها؟ لاشك أن موسىٰ عليه السلام كان حكيماً عندما أمر النبي ﷺ أن يرجع إلىٰ ربه ويسأله التخفيف، وكان الله تبارك وتعالىٰ يعلم أن موسىٰ سيطلب من محمد ﷺ أن يرجع إلىٰ ربه، ولذلك فإن الله تبارك وتعالىٰ لرحمته جعلها خمساً في العمل، ولكنه أبقىٰ الأجر علىٰ خمسين فللَّه الحمد والمنة.
وفي رواية: «ثمّ أُتيت بدابة دون البغل وفوق الحمار [الذي هو البراق]، مسرجاً ملجماً لأركبه، يُسخر للأنبياء قبلي، فاستصعب حين أراد أن يركبه، فقال له جبريل: ما يحملك علىٰ هذا؟ أبمحمد تفعل هذا؟ فوالله ما ركبك أحد قط أكرم علىٰ الله عز وجل منه فارْفَضَّ عرقاً، فركبته فسار حيث أتيت بيت المقدس، فقال جبريل بإصبعه فخرق بها الحجر، وشدّ به البراق، فربطته بالحلقة التي يربط بها الأنبياء، ثمّ دخلت المسجد حيث وضعت قدمي حيث توضع أقدام الأنبياء من بيت المقدس، فرأيتني في جماعة من الأنبياء، فإذا موسىٰ بن عمران عليه السلام قائم يصلي، فإذا رجل آدم طوال أسحم([20]) كثير الشعر شديد الخَلْق، كأنه من رجال شنوءة([21])، وإذا عيسىٰ ابن مريم عليه السلام قائم يصلي، فإذا هو ربعة([22]) أحمر مربوع الخلق إلىٰ الحمرة والبياض سَبْط الرأس([23])، كأنه خرج من ديْماس([24])، أقرب الناس شبهاً به عروة بن مسعود الثقفي، وإذا إبراهيم عليه السلام قائم يصلي أشبه الناس به صاحبكم([25])، فقال له إبراهيم: يا محمد أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، أرضها واسعة، وأنها قيعان، غراسها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله».
[واجتماع الأنبياء مع النبي ﷺ هنا الله أعلم كيف كان، ولكننا نؤمن به وليس ذلك علىٰ الله بعزيز].
قال رسول الله ﷺ: «فحانت الصلاة، فأذن مؤذن فأممتهم، فتقدمت إلىٰ القبلة، فصليت فيه ركعتين، فالتفتُّ فإذا النبيون أجمعون يصلون، فلما فرغت من الصلاة رأيت من حائط بيت المقدس الشرقي جهنم في الوادي الذي بالمدينة، ورأيت ملكاً يقلب جمراً كالقِطْف، وإذا جهنم تنكشف مثل الزرابي، قال جبريل: يا محمد هذا مالك صاحب النار فسَلِّم عليه، فالتفت إليه فإذا رجل عابس يُعرف الغضب في وجهه، فبدأني بالسلام، فسلمت عليه فأُرِي مالكاً خازن النار والدجال في آيات أراهن الله إياه ورأىٰ الدجال في صورته ليس رؤيا منام ولكنها رؤيا عين، فيلمانياً([26]) ضخم، أقمر، حجاناً([27]) إحدىٰ عينيه قائمة كأنها كوكب دريّ، كأن شعر رأسه أغصان شجرة.
قال: ورأيت عموداً أبيض كأنه لؤلؤ تحمله الملائكة، قلت: ما تحملون؟ قالوا: هذا عمود الإسلام، أمرنا أن نضعه بالشام، فمررنا بِعِير لقريش بمكان كذا وكذا فنفرت. فقالوا: يا هؤلاء ما هذا([28])؟ قالوا: ما نرىٰ شيئاً إلا ريحاً فأضلوا بعيراً لهم فجمعه فلان».
هذه هي قصة الإسراء والمعراج، أما الإسراء فكان من مكة إلىٰ بيت المقدس، وأما المعراج فهو من بيت المقدس إلىٰ السماء. والمعراج من العروج وهو الصعود، والإسراء ومن السري وهو المشي ليلاً.
فلما أصبح النبي ﷺ في مكة فُظع بأمره كيف يخبرهم وكيف سيصدقونه، فأصبح وقد أخبر بما كان ﷺ وسعىٰ الناس بذلك إلىٰ أبي بكر، فقالوا له: هل لك إلىٰ صاحبك يزعم أنه أسري به الليلة إلىٰ بيت المقدس. فقال لهم أبو بكر: أوَ قال ذلك؟ قالوا: نعم. قال: لئن كان قد قال ذلك فقد صدق. قالوا: أتصدقه أنه ذهب الليلة إلىٰ بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح؟! قال: نعم إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة.
وقعد النبي ﷺ معتزلاً حزيناً، فمرّ به أبو جهل فجاء حتىٰ جلس إليه فقال له كالمستهزئ: هل كان من شيء؟ فقال له ﷺ: نعم. قال أبو جهل: وما هو؟ فقال ﷺ: إني أسري بي الليلة، قال أبو جهل: إلىٰ أين؟ قال: إلىٰ بيت المقدس. قال أبو جهل: ثم أصبحت بين ظهرانينا؟ قال: نعم. فقال أبو جهل وكأنه يرىٰ النبي ﷺ لا يكذبه بعد ذلك وخاف أن يجحده، فقال: أرأيت إن دعوت قومك أتحدثهم بما حدثتني؟ قال رسول الله ﷺ: نعم. فقال أبو جهل: هيا يا معشر بني كعب بن لؤي هلم. فانتفضت إليه المجالس وجاؤوا حتىٰ جلسوا إليهما([29]).
فقال أبو جهل لرسول الله ﷺ: حدّث قومك بما حدثتني. فقال رسول الله ﷺ: إني أُسري بي الليلة. فقالوا: إلىٰ أين؟ قال: إلىٰ بيت المقدس. قالوا: ثم أصبحت بين ظهرانينا؟ قال: نعم. فمن بين مصفق، ومن بين واضع يده علىٰ رأسه متعجباً، قالوا: وتستطيع أن تنعت لنا المسجد؟
أراد أهل مكة أن يختبروا النبي ﷺ، وذلك أن بعض أهل مكة قد وصلوا إلىٰ بيت المقدس ورأوه، وهم يعلمون أن النبي ما سافر إلىٰ بيت المقدس أبداً.
فقال ﷺ: فلما كذبتني قريش ذهبت أنعت لهم، فما زلت أنعت حتىٰ سألوني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها، فكربت كربة ما كربت مثلها قط، فأثنيت علىٰ ربي وسألته أن يُمَثَّل لي بيت المقدس».
[وهنا المؤمن إذا اشتد به الأمر فلا ملجأ يلجأ إليه إلا إلىٰ الله، لجأ إلىٰ الله جلّ وعلا، فماذا فعل الله به؟]
قال: «فجلّىٰ الله لي بيت المقدس، فرفعه إليّ أنظر إليه حتىٰ وضع دون دار عقيل أراه ما يسألوني عن شيء إلا أنبأتهم به، فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه. فقال القوم: أما النعت فوالله لقد أصاب، فقال لهم النبي ﷺ: وإن من آيتي أني مررت بعير لكم بمكان كذا وكذا قد أضلوا بعيراً لهم جمعه فلان، وإن مسيرهم ينزلون بكذا ثم بكذا، ويأتونكم يوم كذا وكذا يقدمهم جمل آدم عليه مسح أسود وغرارتان سوداوان.
فلما كان اليوم الذي ذكر، أشرف فيه الناس ينتظرون حتىٰ كان قريباً من نصف النهار حتىٰ أقبلت العير يقدمهم ذلك الجمل الذي وصفه رسول الله ﷺ فقال ناس: نحن لا نصدق محمداً بما قال، فضرب الله رقابهم مع أبي جهل.
وهذا يبين لنا أنهم معاندون للنبي ﷺ، وإلا بعد هذا الوصف الدقيق من النبي ﷺ يصرون علىٰ استكبارهم وعلىٰ ضلالهم والعياذ بالله؟
وهذا الإسراء الذي وقع للنبي ﷺ له حِكَم كثيرة فمن حكمه:
أولاً: أن الله تبارك وتعالىٰ أتاح لرسوله ﷺ الاطلاع علىٰ المظاهر الكبرىٰ بقدرته سبحانه وتعالى؛ حتىٰ يزداد ثقة بالله تبارك وتعالىٰ.
ثانياً: ظهور أواصر القربىٰ بين الأنبياء، إذْ إن الأنبياء جميعاً دينهم واحد، كما قال النبي ﷺ: «الأنبياء إخوة لعَلّات، أمهاتهم شتىٰ، ودينهم واحد»([30])، فالأنبياء بينهم من المودة الشيء العظيم، وهذا ما وقع للنبي ﷺ مع إخوانه الأنبياء، في كل سماء يأتيها يرحب به أنبياء تلك السماء، وهذا مصداق قول النبي ﷺ: «مثلي ومثل الأنبياء قبلي كمثل رجل بنىٰ بيتاً، فأحسنه وأجمله إلا موضع لَبِنَة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له، ويقولون: هلّا وُضعت هذه اللبِنَة؟ فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين»([31]).
ثالثاً: تحقق أن هذا الدين هو دين الفطرة في قول النبي ﷺ: «فاخترتُ اللبن، فقيل لي: اخترتَ الفطرة».
([2]) أي: من ثغرة نحره إلىٰ شِعْرته.
([4]) اللغاديد ما بين الحنك إلىٰ العنق.
([6]) يعني إلىٰ السماء الثانية.
([7]) نصف الجمال وهذا هو مصداق قول الله تبارك وتعالىٰ: ﴿ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ﴾ [يوسف: 31].
([8]) وهذا يبين لنا أن كل نبي حريص علىٰ أمته.
([9]) وهذا يدلنا علىٰ أن عدد الملائكة عظيم جداً، فالله سبحانه وتعالى يخلق كل يوم سبعين ألف ملك يطوفون في البيت المعمور، وذلك حتىٰ تقوم الساعة.
([10]) النبق: ثمر السدر، والقلال: هي القُلة التي يحمل فيها الماء.
([14]) الخشفة: الحركة الخفيفة.
([17]) لأن فرعون كان يدعي أنه هو الله.
([19]) أي: ناقة صالح عليه السلام.
([21]) قبيلة من العرب عرفت بالطول.
([22]) الربعة: الذي هو لا طويل ولا قصير.
([26]) والفيلماني هو عظيم الجثة.
([28]) مر عليهم النبي ﷺ بسرعة من فوق البراق خطوه بمد النظر.
([29]) أي إلىٰ أبي جهل وسيده وسيدنا محمد ﷺ.
([30]) أخرجه البخاري (3443)، ومسلم (2365)، من حدث أبي هريرة رضي الله عنه.