عودته ﷺ إلى مكة
12-03-2023
وسار رسول الله ﷺ حتىٰ إذا دنا من مكة مكث بحراء، وبعث رجلاً من خزاعة إلىٰ الأخنس بن شريق ليجيره حتىٰ لا يُؤذىٰ بعد وفاة عمه أبي طالب، فقال الأخنس بن شريق: أنا حليف([1])، والحليف لا يجير.
فبعث النبي ﷺ إلىٰ سهيل بن عمرو يطلب منه الجوار، فقال سهيل: إن بني عامر لا تجير علىٰ بني كعب([2])، فبعث النبي ﷺ إلىٰ المطعم بن عدي، فقال المطعم: نعم. ثمّ تسلّح ودعا بنيه وقومه فقال: البسوا السلاح، وكونوا عند أركان البيت، فإني قد أجرت محمداً، ثمّ بعث إلىٰ رسول الله ﷺ أن ادخل، فدخل الرسول ﷺ ومعه زيد بن حارثة حتىٰ انتهىٰ إلىٰ المسجد الحرام، فقام المطعم بن عدي علىٰ راحلته، فنادىٰ: يا معشر قريش إنّي قد أجرتُ محمداً، فلا يهجه منكم أحد.
وانتهىٰ رسول الله ﷺ إلىٰ الركن فاستلمه وصلىٰ ركعتين، ثمّ انصرف إلىٰ بيته، والمطعم بن عدي وأولاده مُحْدِقون به بالسلاح حتىٰ دخل بيته، وقام أبو جهل إلىٰ المطعم بن عدي فقال أَمُجير أنت أم متابع؟ قال: بل مجير. فقال أبو جهل: قد أجرنا من أجرت.
وهذا التصرف من المطعم بن عدي يظهر لنا أمراً مهماً يجب علينا أن نقف عنده قليلاً، ألا وهو أن الله تبارك وتعالىٰ لما بعث النبي ﷺ إنما بعثه من العرب، وذكر أهل العلم في ذلك حِكماً كثيرة، فمن أعظم هذه الحكم أن العرب لهم من الصفات ما ليس لغيرهم، فنجد أن العربي كريم يضرب في كرمه المثل، شجاع لا يهاب شيئاً، يحافظ علىٰ حق الجار، ألم يقل عنترة ذاك الجاهلي:
وأغض طرفي ما بَدَتْ لي جارتي
حتىٰ يواري جارتي مثواها
وهم أهل صدق باللسان، وسيأتينا في قصة أبي سفيان مع هرقل قول أبي سفيان: والله لولا أن العرب تحسب عليّ كذبة لكذبت([3])، يقول هذا وهو في جاهليته.
وفيهم الأنفة والأخوة والأمانة، ويموت الرجل في سبيل أن يدافع عن أمانته، وقصة السموأل مع امرئ القيس مشهورة جداً، لما جعل عنده ابنته أمانة مات في سبيل الدفاع عنها([4])، وصفات أخرىٰ لأجلها جميعاً ولغير ذلك من الحكم اختار الله تبارك وتعالىٰ العرب دون غيرهم.
فهذا المطعم بن عدي علىٰ الشرك متابع لقومه، ومعادٍ للنبي ﷺ، يبغض دينه، قاطع النبي ﷺ مع من قاطع، مع هذا كله يأتيه النبي ﷺ فيقول له: أجرني حتىٰ أدخل إلىٰ بلدي. فيقول: نعم، ثمّ ماذا يفعل؟ يأمر أولاده أن يتسلحوا دفاعاً عن النبي ﷺ؛ لأنه أجاره، فيدخل النبي ﷺ في جوار المطعم ابن عدي. ثمّ هذا أبو جهل يسأل المطعم بن عدي أمجير أم متابع؟ قال: بل مجير. قال: قد أجرنا من أجرت.
كما قال ابن خلدون رحمه الله: «إن العرب قد اجتمعت فيهم صفات كثيرة من الحُسن، وإنما كانوا يحتاجون إلىٰ دين يربطهم ويقوِّم من سلوكهم».
فبعث الله تبارك وتعالىٰ نبيه محمداً ﷺ بهذه الشريعة السمحة، وبهذا الدين القيم، فلما اختارت العرب هذا الدين نصر الله بهم الدين، ونشره في المعمورة، وحُق لهم ذلك.
والنبي ﷺ ما نسي هذا للمطعم بن عدي، ففي قضية أسرىٰ بدر لما خُيِّر بين القتل والمنّ والفداء قال: «لو كان المطعم بن عدي حياً ثمّ سألني أولئك النتنىٰ لأعطيتهم إياه أو لتركتهم له»([5]).
([2]) أي: لا أستطيع أن أجيرك عن كل أهل مكة.
([3]) أخرجه البخاري (7)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
([4]) انظر: «الكامل» لابن الأثير (1/467).
([5]) أخرجه البخاري (3139)، من حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه.