كيف وصل الشرك إلىٰ مكة؟
12-03-2023
كانت خزاعة هم ولاة البيت الحرام قَبْل قريش، وكانوا يتوارثون الولاية علىٰ البيت كابراً عن كابر، واستمرت علىٰ ولاية البيت ثلاثمئة سنة، وقيل: خمسمئة سنة، وفي زمانهم جُلبت الأوثان إلىٰ مكة علىٰ يد زعيمهم عمرو بن لُحَيٍّ، وكان قوله فيهم كالشرع المتبع لمكانته عندهم، وكان عمرو بن لحي هذا قد خرج إلىٰ الشام فرأىٰ أهل الشام يعبدون الأصنام فقال: ما هذه الأصنام التي تعبدون؟ قالوا: هذه أصنام نعبدها نستمطرها فتمطرنا ونستنصرها فتنصرنا. فقال: ألا تعطوني منها صنماً أسير به إلىٰ أرض العرب فيعبدونه؟ فأعطوه صنماً يقال له: هُبل فقدم به مكة فنصبه وأمر الناس بعبادته فأطاعوه. ﴿فَٱسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ﴾ [الزخرف: 54].
قال رسول الله ﷺ: «رأيت عمرو بن لحي يجر قُصبه([1]) في النار»([2]).
وقد كانت العرب علىٰ دين إبراهيم ﷺ، ولكن لطول العهد نسوا كثيراً من تفاصيل الشرع، واستمر هذا الأمر وهو رئاسة خزاعة علىٰ البيت الحرام حتىٰ تزوج قصي بن كلاب من ابنة رئيس خزاعة، ثمّ بعد ذلك استعان بالعرب علىٰ قتال خزاعة فهزمهم وأجلاهم عن مكة، وتسلم قصي الرئاسة، وقصي من قريش. وكان مما بقي عند العرب من العبادات التي كانت علىٰ دين إبراهيم ﷺ الحج، فكانوا يطوفون ويسعون ويقفون في عرفات ومزدلفة ويُهدون البُدن، ولكنهم صاروا يقولون في تلبيتهم لما بَعُدَ العهد: لبيك اللَّهم لبيك، لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، مَلَكْتَه وما ملك.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: إذا سرّك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين ومئة من سورة الأنعام، قال تعالىٰ: ﴿قَدْ خَسِرَ ٱلَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ ٱللَّهُ ٱفْتِرَاءً عَلَى ٱللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾ [الأنعام: 140].
قال ابن كثير رحمه الله: «من ذلك ما كانوا ابتدعوه من الشرائع الباطلة الفاسدة التي ظنها كبيرهم عمرو بن لُحي ــ قبَّحه الله ــ مصلحة ورحمة بالدواب والبهائم وهو كاذب مُفْتَرٍ في ذلك، ومع هذا الجهل والضلال اتبعه هؤلاء الجهلة الطغام»([3]). قال الله تبارك وتعالىٰ: ﴿ مَا جَعَلَ ٱللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ﴾ [المائدة: 103].
والبحيرة: هي التي كانوا يبحرون أذنها أي يشقونها ويجعلون لبنها للطواغيت ويمنعون الناس منها.
وأما السائبة؛ فهي البعير يُسَيَّب فلا يحبس عن رعي ولا ماء ولا يركبه أحد ويكون للآلهة.
وأما الوصيلة؛ فهي الناقة إذا ولدت أنثىٰ بعد أنثىٰ، فإن ولدت ذكراً فهي للآلهة.
وأما الحام؛ فهو الفحل إذا أنتج من ظهره عشرة ترك فلا يُركب ولا يُمنع من رعي.
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله: «بل قد تابعوه في ما هو أطمّ من ذلك وأعظم بكثير، وهو عبادة الأوثان مع الله عز وجل، وبدلوا ما كان الله بعث به إبراهيم خليله من الدين القويم والصراط المستقيم من توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له، وتحريم الشرك، وغيَّروا شعائر الحج ومعالم الدين، بغير علم ولا برهان ولا دليل صحيح ولا ضعيف، واتبعوا في ذلك من كان قبلهم من أمم المشركين»([4]).
وقد اتخذت العرب مع الكعبة طواغيت تعظمها كتعظيم الكعبة، فجعلوا لها سدنة وهم الخدم والحجّاب يذبح لها ويطاف حولها ومع هذا كله يعرفون فضل الكعبة.
أمّا قريش فكانت لها «العزىٰ» و«هبل»، وكانت «اللات» لثقيف وكانت «مناة» للأوس والخزرج، وكان «ذو الخُلصة» لدوس.
([1]) أي: يجر أمعاءه في النار.
([2]) أخرجه البخاري (3521)، (4623)، ومسلم (2856).