دعوة النبي ﷺ في مكة
12-03-2023
بعثته
ولمّا بلغ النبي ﷺ الأربعين من عمره امتنّ الله تبارك وتعالىٰ علىٰ الإنسانية أجمع بمبعثه ﷺ هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلىٰ الله بإذنه وسراجاً منيراً، وهذه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تحدثنا عن قصة مبعثه ﷺ.
قالت عائشة رضي الله عنها: أول ما بُدئ به ﷺ من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم فكان لا يرىٰ رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح([1]). ثمّ حُبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء فيتحنّث فيه([2]) الليالي ذوات العدد، قبل أن ينزع إلىٰ أهله، ثمّ يرجع إلىٰ خديجة فيتزود لمثلها، وهكذا حتىٰ جاءه الحق([3])، فقال: اقرأ. فقال ﷺ: «ما أنا بقارئ([4])». قال: فأخذني فغطّني([5]) حتىٰ بلغ منّي الجَهد، ثمّ أرسلني فقال: اقرأ. قلت: ما أنا بقارئ فأخذني فغطَّني الثانية حتىٰ بلغ منّي الجهد ثمّ أرسلني فقال: اقرأ. قلت: ما أنا بقارئ. فأخذني فغطَّني الثالثة ثمّ أرسلني، فقال: ﴿ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ خَلَقَ ٱلْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ ٱقْرَأْ وَرَبُّكَ ٱلْأَكْرَمُ ٱلَّذِي عَلَّمَ بِٱلْقَلَمِ عَلَّمَ ٱلْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ [العَلق: 1-5]»، فرجع بها رسول الله ﷺ يرجف فؤاده من الخوف([6]). فدخل علىٰ خديجة بنت خويلد رضي الله عنها فقال: «زملوني، زملوني». قالت: فزمّلوه حتىٰ ذهب عنه الروع([7]).
فقال لخديجة بعد أن أخبرها الخبر: «لقد خشيت علىٰ نفسي». قالت خديجة ــ وهي المثبّتة والتي اختارها الله لنبيه ﷺ ــ: كلا والله ما يخزيك الله أبداً.
وهذا الكلام من خديجة تبدأه بالنفي، ثمّ بالقسم «والله ما يخزيك الله أبداً»، وتؤكده بقولها «أبداً»، كلُّ هذا دليل علىٰ ثقة هذه المرأة بربها تبارك وتعالىٰ، ومعرفتها الحقّة بمحمد ﷺ، والسبب الذي من أجله بنَتْ هذا الكلام هو ما ذكرته بعد ذلك. بقولها: إنك لتصل الرحم، وتحمل الكَلَّ([8])، وتُكسب المعدوم([9])، وتُقْري الضيف([10])، وتعين علىٰ نوائب الحق([11]).
وكأنها تقول للنبي ﷺ: مَنْ كانت هذه صفاته لا يمكن أن يقع الخزي من الله عليه أبداً، لأن هذه الصفات صفات كمال.
ثمّ انطلقت به حتىٰ أتت به ورقة بن نوفل ــ وهو ابن عم لها ــ وكان قد تنصّر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني([12]) ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخاً كبيراً قد عمي، فقالت له خديجة: يا ابن عم، اسمع من ابن أخيك. فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترىٰ؟ فأخبره رسول الله ﷺ خبر ما رأىٰ. فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزله الله علىٰ موسىٰ([13])، يا ليتني فيها جذعاً([14])، إذ يُخرجك قومك.
عندها استبعد الرسول أن يخرجه قومه، وذلك أنه يرىٰ أن قومه يحبونه حباً شديداً، ولا يسمونه إلا الصادق الأمين ﷺ، ولهذا قال: «أوَ مخرجيَّ هم؟». قال: نعم، لم يأتِ رجلٌ قط بمثل ما جئت به إلا عُودي.
وهذه قاعدةٌ مهمة وأصل عظيم بنىٰ عليه ورقة بن نوفل رأيه، وذلك أن كل الأنبياء أوذوا وعودوا، فمنهم من قُتل، ومنهم من طرد، ومنهم من أُوذي، ومنهم من خُوّف، وهذا كثير.
قال: وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً. ثمّ لم يَنْشَب([15]) ورقة أن توفي، وفَتَر([16]) الوحي بعد ذلك([17]). وهذه المدة قدرها أهل العلم بستة أشهر، وقال بعضهم: إنها بلغت ثلاث سنين.
وورقة بن نوفل رحمه الله يُعتبر مسلماً، وقد ثبت عن النبي ﷺ أنه قال: «لا تسبوا ورقة، فإني رأيت له جنة أو جنتين»([18]). ولكن هل كان صحابياً؟
الصحيح أنه لم يكن صحابياً؛ وذلك أنه لم يدرك الرسالة؛ لأنه مات بعد مبعث النبي ﷺ، وقبل تبليغه ﷺ.
([3]) والحق هنا يحتمل أن يكون جبريل ويحتمل أن يكون الأمر الحق وهو بعثة النبي ﷺ.
([4]) أي لا أعرف القراءة، وذلك أن النبي ﷺ أمّي لا يستطيع القراءة ولا يعرفها ﷺ، وقد أخبر الله تبارك وتعالىٰ عنه في قوله: ﴿ ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِيَّ ٱلْأُمِّيَّ﴾ ، وأخبر النبي ﷺ عن نفسه فقال: «إنّا أمّة أمّية لا نكتب ولا نحسب». أخرجه البخاري (1908، 1913، 5302) ومسلم (1080).
([6]) وهذا أمر غريب، يأتيه الملك في هذا المكان الموحش المظلم في الليل، ويضمّه هذا الضم الشديد، فأوقع هذا في قلب النبي ﷺ الخوف، وهذا خوف فطري لا يضره شيئاً، كما خاف موسىٰ ﷺ من الحية، وكما وخرج من مصر خائفاً يترقب.
([7]) وذلك أن الخائف يشعر بالبرد والرعشة، فيحتاج إلىٰ أن يتلحّف ويتغطىٰ حتىٰ يذهب عنه ما يجد من الرجفة.
([8]) الكَلَّ: هو الذي لا يستطيع أن يستقل بأمره.
([12]) يعني التوراة والإنجيل، وسميت «العبرانية» نسبةً إلىٰ عبورهم النهر.
([13]) هذا الشيء هو الذي أنزله الله تبارك وتعالىٰ علىٰ موسىٰ عليه السلام.
([17]) أخرجه البخاري (3)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
([18]) أخرجه الحاكم في «المستدرك» (2/666)، من حديث عائشة رضي الله عنها.