إعادة بناء الكعبة
12-03-2023
لما بلغ النبي ﷺ الخامسة والثلاثين من عمره وقع أمر مهم وهو أن قريشاً قررت إعادة بناء الكعبة؛ لأن الكعبة قد تساقطت بعض حجارتها، وكان قد جاءها سيل شديد أثر في بنيانها كثيراً، واختلفوا هل يُرَمِّمون البيت أو يهدمونه ويبنونه من جديد؟
فمِنْ قائلٍ: يُهدم ويُبنىٰ من جديد. ومن قائل: بل يُرمم؛ لأنهم خشوا إذا هدموا البيت أن يصابوا بأذىٰ، لأن ما حدث لأبرهة قريب جداً، وكثير منهم قد عاصر ورأى ما وقع لأبرهة وجيشه حين أرادوا ذلك البيت المقدس.
فقام الوليد بن المغيرة وقال: والله لَنهدمنّه ولَنبنينّه من جديد. فقالوا: إنّا نخاف أن نُصاب بأذىٰ. فقال: وأي أذىٰ وأنتم إنما أردتم الخير؟ قالوا: فابدأ أنت.
فجاء الوليد إلىٰ الكعبة ورفع الفأس وقال: اللَّهم لن تُرَع!!
يعني لا تَخَفْ يا رب، لا نريـد إيذاءك، وإنما نريد الخير! وهذا لا شك يدل علىٰ جهلهم بالله تبارك وتعالىٰ.
فضرب ثمّ انتظر، فلم يصب بأذىٰ فقال: أيها الناس اهدموا، فقالوا: لا، حتىٰ تصبح وأنت سليم. فلما أصبح، وإذ لم يصب بأذىٰ، فقاموا جميعاً فهدموا بيت الله الحرام. ولكنهم لما أرادوا إعادة بنائه قالوا: لا يَدْخل في بنائه إلا مال طيب، فلا يُقْبل مال ربا، ولا مَيْسر، ولا مَهٍر بَغِي([1])، ولا مال مسروق.
وهذا شيء عجيب! فهم علىٰ كفرهم يعرفون المال الحلال من المال الحرام.
وقدّر الله أن المال الحلال الذي جمعوه كان قليلاً لم يكفِ لبناء الكعبة، فبنوا الكعبة علىٰ ما هي عليه الآن، ثمّ جعلوا هذا القوس الذي نراه، والذي يسميه كثير من الناس: «حِجْر إسماعيل»، وليس لإسماعيل ﷺ حجر، بل هو «الحِجْر» أو «الجَدْر» ــ كما كان يسميه أهل مكة ــ أو «الحطيم»، وهذا الحِجْر ستة أذرع منه تعتبر من الكعبة، ولذلك إذا أردنا أن نطوف حول الكعبة لا يجوز لنا أن نطوف من داخل الحِجْر؛ لأننا مطالبون أن نطوف حول الكعبة لا أن نطوف في الكعبة.
وكان للكعبة بابان، فجعلوا لها باباً واحداً، وكان الباب ملاصقاً للأرض فرفعوه، حتىٰ يدخلوا من شاؤوا ويمنعوا من شاؤوا.
وقد سألت عائشة رضي الله عنها رسول الله ﷺ عن الجَدْر أمن البيت هو؟ قال: «نعم». قالت: فما لهم لم يدخلوه في البيت؟ قال: «إنّ قومك قصّرت بهم النفقة». قالت: فما شأن بابه مرتفعاً؟ قال: «فعل ذلك قومك ليدخلوا من شاؤوا ويمنعوا من شاؤوا، ولولا أن قومك حديثوا عهد بالجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبهم أن أدخل الجدر في البيت، وأن ألصق بابه بالأرض»([2]).
وذلك من النبي ﷺ عَيْنُ الحِكمة؛ إذ إن قريشاً ستقول: انظروا إلىٰ محمد ﷺ يدّعي أنه مُرسل من الله، أول ما فتح مكة هدم بيت الله؟! ولذا رأىٰ النبي ﷺ أن من الحكمة أن يؤخر هذا الأمر.
ولكن هل تأخر هذا الأمر كثيراً؟ لا، لم يتأخر كثيراً؛ ففي خلافة أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير رضي الله عنه عنه سنة خمس وستين من هجرة النبي ﷺ، أو سنة أربع وستين، قام عبد الله بن الزبير فأدخل الحجر في الكعبة، ووسع الكعبة وأطال بنيانها، وأنزل الباب إلىٰ الأرض، وجعل للكعبة بابين، كل ذلك كما أراده النبي ﷺ([3]).
قال عطاء: «إن عبد الله بن الزبير جمع الناس فقال: يا أيها الناس، أشيروا عليّ في الكعبة، أنقضها ثمّ أبني بناءها أو أُصْلِح ما وَهِي منها؟ فقال ابن عباس: فإني قد فُرق لي رأي فيها، أرىٰ أن تصلح ما وَهِي منها، وتدع بيتاً أسلم الناس عليه وأحجاراً أسلم الناس عليها، وبُعث عليها النبي ﷺ».
فقال ابن الزبير: «لو كان أحدكم احترق بيته ما رضي حتىٰ يُجِدّه([4]) فكيف ببيت ربكم؟ إني مستخير ربي ثلاثاً ثمّ عازم علىٰ أمري». فلما مضىٰ الثلاث أجمع رأيه علىٰ أن ينقضها، فتحاماه الناس أن ينزل بأول الناس يصعد إليها أمر من السماء. فصعد رجل وألقىٰ من البيت حجارة، فلما لم يَرَ الناس أنه أصابه شيء تتابعوا فنقضوا البيت حتىٰ بلغوا به الأرض، فجعل ابن الزبير أعمدة فستر عليها الستور حتىٰ ارتفع بناؤه.
وقال ابن الزبير: إني سمعت عائشة رضي الله عنها تقول إن النبي ﷺ قال: «لولا أن الناس حديث عهدهم بكفر وليس عندي من النفقة ما يقوىٰ علىٰ بنائه، لكنت أدخلت فيه من الحجر خمسة أذرع([5])، ولجعلت لها باباً يدخل الناس منه وباباً يخرجون منه».
قال عبد الله بن الزبير: فأنا اليوم أجدُ ما أنفق ولست أخاف الناس.
فزاد فيه خمسة أذرع كما أراد النبي ﷺ من الحِجْر حتىٰ أبدىٰ أُسّاً([6]) نظر الناس إليه أساس إبراهيم ﷺ، فبنىٰ عليه البناء، وكان طول الكعبة ثمانية عشر ذراعاً، فلما زاد فيه استقصره، فزاد في طوله عشرة أذرع.
فابن الزبير زادها طولاً وعرضاً رضي الله عنه.
وجعل للكعبة بابين: أحدهما يُدخل منه والآخر يُخرج منه، فلما قُتل ابن الزبير سنة ثلاث وسبعين من الهجرة علىٰ يد الحجاج بن يوسف الثقفي؛ كتب الحجاج إلىٰ عبد الملك بن مروان يخبره بذلك([7])، ويخبره أن ابن الزبير قد وضع البناء علىٰ أسٍ نظر إليه العدول من أهل مكة.
فكتب إليه عبد الملك: إنّا لسنا من تلطيخ ابن الزبير في شيء، أما ما زاد من طوله فأقره([8])، وأما ما زاد فيه من الحِجْر فردّه إلىٰ بنائه، وسد الباب الذي فتحه، فنقضه وأعاده إلىٰ بنائه.
وهذا أمر عجيب! فعبد الله بن الزبير رضي الله عنه نفذ وصية النبي ﷺ. وعبد الملك بن مروان لما استُخلف ظن أن عبد الله بن الزبير إنما زاد هذا من عند نفسه فأمر بنقضه، وأعاد الكعبة كما كانت زمن النبي ﷺ.
وقد وفد الحارث بن عبد الله علىٰ عبد الملك بن مروان فقال عبد الملك: ما أظن أبا خبيب ــ يعني عبد الله بن الزبير ــ سمع من عائشة ما كان يزعم أنه سمعه منها. فقال الحارث: بلىٰ أنا سمعته منها. فقال عبد الملك: سمعتها تقول ماذا؟ قال: قالت: قال رسول الله ﷺ: «إن قومك استقصروا من بنيان البيت، ولولا حداثة عهدهم بالشرك أعدتُ ما تركوا منه، فإن بدا لقومك من بعدي أن يبنوه فَهَلُمِّي لأريك ما تركوا منه». فأراها قريباً من سبعة أذرع، وأنه كذلك، «ولجعلت لها بابين موضوعين في الأرض شرقياً وغربياً، وهل تدرين لم كان قومك رفعوا الباب؟». قالت: قلت: لا. قال: «تعززاً ألا يدخلها إلا من أرادوا، فكان الرجل إذا هو أراد أن يدخلها يدعونه يرتقي حتىٰ إذا كاد أن يدخل دفعوه فسقط».
فقال عبد الملك للحارث: أنت سمعتها تقول هذا؟ قال: نعم. قال: فنكت عبد الملك ساعة بعصاه([9])، ثم قال: وددتُ أني تركته وما تحمّل. وفي رواية: لو كنت سمعته قبل أن أهدمه لتركته علىٰ ما بنىٰ ابن الزبير رضي الله عنه([10]).
وفي عهد الدولة العباسية في خلافة المهدي أراد الخليفة أن يعيد بناء الكعبة وأن يُدخل الحجر فيها مرة ثانية، فسأل الإمام مالكاً قال: ما تقول؟ فقال الإمام مالك: لا تفعل. قال: لِمَ؟ قال: أخشىٰ أن يتخذه الملوك لعبة، هذا يهدم وهذا يبني. فتركه الخليفة، وبقي البيت علىٰ حاله إلىٰ يومنا هذا([11]).
فإن قال قائل: فهل نعيده الآن ونبنيه كما أراد النبي ﷺ؟
فنقول: هذا مصيره إلىٰ العلماء يجتمعون ثمّ ينظرون الأمر، فإن رأوا ذلك فالأمر إليهم، ﴿ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي ٱلْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ [النساء: 83].
([2]) أخرجه البخاري (1584، 7243)، ومسلم (1333).
([5]) هكذا قال، وقال غيره: ستة أذرع.
([7]) أي بما فعل ابن الزبير من بناء البيت.