الَّذي ظَهَرَ لي أنَّ عَلياً بايَعَ ثُمَّ لازَمَ فاطِمَةَ في مَرَضِها حَتّى ظَنَّ البَعْضُ أنَّهُ لم يُبايِعْ، خاصّةً إِذا أضَفْنا إِلى هَذا تأخُّرَ عَلي والزُّبَيْرِ حَتّى دَعاهُما أبو بَكْرٍ كَما في حَديثِ أبي سَعيدٍ الَّذي سَنَذْكُرُهُ الآنَ، وَيَدُلُّ عَلى أنَّه بايَعَ أُمورٌ، مِنْها:

  1. كَوْنُ عَلي لم يُبايِعْ هو مِنْ إِدْراجِ تَلاميذِ الزُّهْري بَعْدَما أضافَهُ أثْناءَ تَحْديثِهِ، وَلَيْسَ مِنْ كَلامِ عائِشَةَ رضي الله عنها.
  2. أنَّ عَلياً بايَعَ مَعَ النّاسِ كَما ذَكَرَ ذَلِكَ أبو سَعيدٍ الخُدْري رضي الله عنه وَهو قَدْ حَضَرَ الحادِثَةَ، بِخِلافِ الزُّهْري، فإنَّهُ لم يُبَيِّنْ عَمَّنْ حَمَلَ هَذا.
  3. عَلَى فَرْضِ أنَّ عَدَمَ مُبايَعَةِ عَليٍّ مِنْ قَوْلِ عائِشَةَ وَلَيْسَ مِنْ كَلامِ الزُّهْري، فإنَّ حَديثَ أبي سَعيدٍ مُقَدَّمٌ؛ لِأنَّ أبا سَعيدٍ رضي الله عنه حَدَّثَ بِما عَلِمَ، وَعائِشَةَ رضي الله عنها حَدَّثَتْ بِما عَلِمَتْ، وَمَنْ عَلِمَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ لم يَعْلَمْ؛ وَذَلِكَ أنَّ عائِشَةَ  رضي الله عنها لَمْ تَحْضُرْ.

قالَ الحَكَمي رحمه الله: «وَهَذا لا يُنافي ما ذُكِرَ في بَيْعَتِهِ إياهُ حينَ أرْسَلَ إِلَيْهِ لَمّا افْتَقَدَهُ لَيْلَةَ السَّقيفَةِ أوْ صُبْحَتَها، وَلَفْظَةُ: «لَمْ يَكُنْ بايَعَ تِلْكَ الأشْهُرَ»، إِنْ كانَ مِنْ قَوْلِ عائِشَةَ فَلَعَلَّها لم تَعْلَمْ بَيْعَتَهُ الأولَى الَّتي أثْبَتَها أبو سَعيدٍ وَغَيْرُهُ؛ لأنَّ الرِّجالَ في مِثْلِ هَذِهِ المَسْألَةِ أقْوَمُ وأعْلَمُ بِها إِذْ لا يَحْضُرُها النِّساءُ.

وأيْضاً فَقَدْ قَدَّمْنا مِراراً أنَّ مُجَرَّدَ النَّفْيِ لا يَكونُ عِلْماً وَعِنْدَ المُثْبِتِ زيادَةُ عَلَمٍ انْفَرَدَ بِها عَن النّافي؛ إِذْ فَغايَةُ ما عِنْدَ النّافي أنَّهُ لا يَعْلَمُ. وَلَعَلَّ عائِشَةَ تَيَقَّنَتْ عَدَمَ حُضورِهِ بَيْعَةَ السَّقيفَةِ مِن العَشي وَلَمْ يَبْلُغْها حُضورُهُ صُبْحَتَها في البَيْعَةِ العامَّةِ.

وإنْ كانَ هَذا كَلامُ بَعْضِ الرّواةِ فَهو بِمُجَرَّدِ ما فَهِمَهُ مِن البَيْعَةِ الأُخْرَى ظَنَّ أنَّهُ لم يُبايِعْ قبل ذلك، فقال مُصَرِّحاً بِظَنِّهِ: «وَلَمْ يَكُنْ بايِعْ تِلْكَ الأشْهُرَ»»([1]).

قالَ الحافِظُ ابْنُ كَثيرٍ رحمه الله: «وقالَ الحافِظُ أبو بَكْرٍ البَيْهَقي: أخْبَرَنا أبو الحَسَنِ عَلي بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلي الحافِظُ الإِسْفَراييني، حَدَّثَنا أبو عَلي الحُسَيْنُ بْنُ عَلي الحافِظُ، حَدَّثَنا أبو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ وإبْراهيمُ بْنُ أبي طالِبٍ، قالا: حَدَّثَنا بُنْدارُ بْنُ بَشّارٍ، حَدَّثَنا أبو هِشامٍ المَخْزومي، حَدَّثَنا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنا داوُدُ بْنُ أبي هِنْدٍ، حَدَّثَنا أبو نَضْرَةَ، عَنْ أبي سَعيدٍ الخُدْري قالَ: قُبِضَ رَسولُ الله ، واجْتَمَعَ النّاسُ في دارِ سَعْدِ بْنِ عُبادَةَ وَفيهِمْ أبو بَكْرٍ وَعُمَرُ.

قالَ: فَقامَ خَطيبُ الأنْصارِ فَقالَ: أتَعْلَمونَ أنَّ رَسولَ الله  كانَ مِنَ المُهاجِرينَ، وَخَليفَتُهُ مِنَ المُهاجِرينَ؟ وَنَحْنُ كُنّا أنْصارَ رَسولِ الله ، وَنَحْنُ أنْصارُ خَليفَتِهِ كَما كُنّا أنْصارَهُ. قالَ: فَقامَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ فَقالَ: صَدَقَ قائِلُكُمْ، أما لَوْ قُلْتُمْ غَيْرَ هَذا لم نُتابِعْكُمْ. وأخَذَ بيدِ أبي بَكْرٍ وَقالَ: هَذا صاحِبُكُمْ فَبايِعوهُ. فَبايَعَهُ عُمَرُ، وَبايَعَهُ المُهاجِرونَ والأنْصارُ.

قالَ: فَصَعِدَ أبو بَكْرٍ المِنْبَرَ فَنَظَرَ في وُجوهِ القَوْمِ فَلَمْ يَرَ الزُّبَيْرَ. قالَ: فَدَعا بِالزُّبَيْرِ فَجاءَ فَقالَ: قُلْتُ: ابْنُ عَمَّةِ رَسولِ الله ﷺ وَحَواريهُ، أرَدْتَ أنْ تَشُقَّ عَصا المُسْلِمينَ؟! فَقالَ: لا تَثْريبَ يا خَليفَةَ رَسولِ اللهِ. فَقامَ فَبايَعَهُ. ثُمَّ نَظَرَ في وُجوهِ القَوْمِ فَلَمْ يَرَ عَلياً، فَدَعا بِعَلي بْنِ أبي طالِبٍ فَجاءَ فَقالَ: قُلْتُ: ابْنُ عَمِّ رَسولِ الله ﷺ وَخَتَنُهُ عَلَى ابْنَتِهِ، أرَدْتَ أنْ تَشُقَّ عَصا المُسْلِمينَ؟! قالَ: لا تَثْريبَ يا خَليفَةَ رَسولِ اللهِ. فَبايَعَهُ. هَذا أوْ مَعْناهُ.

قالَ أبو عَلي الحافِظُ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْحاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ يَقولُ: جاءَني مُسْلِمُ بْنُ الحَجّاجِ فَسألَني عَنْ هَذا الحَديثِ، فَكَتَبْتُهُ لَهُ في رُقْعَةٍ وَقَرأتُهُ عَلَيْهِ وَقالَ: هَذا حَديثٌ يَسْوَى بَدَنَةً. فَقُلْتُ: يَسْوَى بَدَنَةً؟! بَلْ يَسْوَى بَدْرَةً.

قالَ ابْنُ كَثيرٍ: «وَهَذا إِسْنادٌ صَحيحٌ مَحْفوظٌ مِنْ حَديثِ أبي نَضْرَةَ المُنْذِرِ بْنِ مالِكِ بْنِ قِطْعَةَ عَنْ أبي سَعيدٍ سَعْدِ بْنِ مالِكِ ابْنِ سِنانٍ الخُدْري، وَفيهِ فائِدَةٌ جَليلَةٌ وَهي مُبايَعَةُ عَلي بْنِ أبي طالِبٍ إِمّا في أوَّلِ يَوْمٍ أوْ في اليَوْمِ الثّاني مِن الوَفاةِ. وَهَذا حَقٌّ؛ فإنَّ عَلي بْنَ أبي طالِبٍ لم يُفارِق الصِّدّيقَ في وَقْتٍ مِن الأوْقاتِ، وَلَمْ يَنْقَطِعْ في صَلاةٍ مِنَ الصَّلَواتِ خَلْفَهُ»([2]).

 

([1])       مَعارِجُ القَبولِ (3/1137).

([2])      البِدايَةُ وَالنِّهايَةُ (8/90 ــ 91)، تاريخُ دِمَشْقَ (30/277).