هل غضبت فاطمة وهجرت أبا بكر؟
09-03-2023
هل غضبت فاطمة وهجرت أبا بكر؟
ظَهَرَ مِنْ سَرْدِ طُرُقِ هَذا الحديثِ اخْتِلافٌ كَبيرٌ في مَتْنِهِ بَيْنَ تَلاميذِ الزُّهْري كَما مَرَّ، والَّذي ظَهَرَ لي أُمورٌ:
- أنَّ غَضَبَ فاطِمَةَ وَهَجْرَها إِمّا أنْ يَكونَ مُدْرَجاً ــ وَهو الظّاهِرُ لي ــ، وإمّا أنْ يَكونَ مُؤَقَّتاً كَما جاءَ في رِوايَةِ البَيْهَقي قالَ: أخْبَرَنا أبو عَبْدِاللهِ الحافِظُ، ثنا أبو عَبْدِاللهِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقوبَ الحافِظُ، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِالوَهّابِ، ثنا عَبْدانُ بْنُ عُثْمانَ العَتَكي بِنَيْسأبورَ، ثنا أبو ضَمْرَةَ، عَنْ إِسْماعيلَ بْنِ أبي خالِدٍ، عَن الشَّعْبي، قالَ: لَمّا مَرِضَتْ فاطِمَةُ رضي الله عنها أتاها أبو بَكْرٍ الصِّدّيقُ رضي الله عنه فاسْتأذَنَ عَلَيْها، فَقالَ عَلي رضي الله عنه: يا فاطِمَةُ، هَذا أبو بَكْرٍ يَسْتأذِنُ عَلَيْكِ، فَقالَتْ: أتُحِبُّ أنْ آذَنَ لَهُ؟ قالَ: نَعَمْ، فأذِنَتْ لَهُ، فَدَخَلَ عَلَيْها يَتَرَضّاها وَقالَ: «واللهِ ما تَرَكْتُ الدّارَ والمالَ والأهْلَ والعَشيرَةَ إِلّا ابْتِغاءَ مَرْضاةِ الله وَمَرْضاةِ رَسولِهِ وَمَرْضاتِكُمْ أهْلَ البَيْتِ». ثُمَّ تَرَضّاها حَتَّى رَضيتْ. قالَ البَيْهَقي: هَذا مُرْسَلٌ حَسَنٌ بِإِسْنادٍ صَحيحٍ([1]).
وَقالَ الحَلَبي في سيرتِهِ: «وَمَعْنَى هجْرانِها لِأبي بَكْرٍ رَضي اللهُ تَعالى عَنْهُ أنَّها لَمْ تَطْلُبْ مِنْهُ حاجَةً، وَلَمْ تَضْطَر إِلى لِقائِهِ؛ إِذْ لَمْ يُنْقَلْ أنَّها رَضي اللهُ تَعالى عَنْها لَقيتْهُ وَلَمْ تُسَلِّمْ عَلَيْهِ وَلا كَلَّمَتْهُ. وَرَوَى ابْنُ سَعْدٍ أنَّ أبا بَكْرٍ رَضي اللهُ تَعالى عَنْهُ جاءَ إِلى بَيْتِ عَلي لَمّا مَرِضَتْ فاطِمَةُ فاسْتأذَنَ عَلَيْها، فَقالَ عَلي كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ: هَذا أبو بَكْرٍ عَلى البابِ يَسْتأذِنُ، فإنْ شِئْتِ أنْ تأذَني فأذَني. قالَتْ: وَذاكَ أحَبُّ إِلَيْكَ؟ قالَ: نَعَمْ. فأذِنَتْ رَضي اللهُ تَعالى عَنْها، فَدَخَلَ واعْتَذَرَ إِلَيْها، فَرَضيتْ عَنْهُ. وأنَّ أبا بَكْرٍ رَضي اللهُ تَعالى عَنْهُ صَلَّى عَلَيْها([2]).
وَقالَ القُرْطُبي رحمه الله: «إِنَّها لَمْ تَلْتَقِ بِأبي بَكْرٍ لِشُغْلِها بِمُصيبَتِها بِرَسولِ الله ﷺ وَلِمُلازَمَتِها بَيْتِها، فَعَبَّرَ الرّاوي عَنْ ذَلِكَ بِالهُجْرانِ، وإلّا فَقَدْ قالَ رَسولُ الله : «لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أنْ يَهْجُرَ أخاهُ فَوْقَ ثَلاثِ»([3])، وَهي أعْلَمُ النّاسِ بِما يَحِلُّ مِنْ ذَلِكَ وَيَحْرُمُ، وأبْعَدُ النّاسِ عَنْ مُخالَفَةِ رَسولِ الله »([4]).
- إِنَّ فاطِمَةَ ــ لِما عُلِمَ مِنْ دينِها وَزُهْدِها ــ أكْبَرُ مِنْ أنْ تَحْزَنَ عَلى لُعاعَةٍ مِن الدُّنْيا كُلَّ هَذا الحُزْنِ.
- قَدْ يَكونُ طَلَبُها لِلْمِيراثِ لِعَدَمِ عِلْمِها بِحَديثِ النَّبي، قالَ القُرْطُبي رحمه الله: «فأمّا طَلَبُ فاطِمَةَ ميراثَها مِنْ أبيها مِنْ أبي بَكْرٍ فَكانَ ذَلِكَ قَبْلَ أنْ تَسْمَعَ الحَديثَ الَّذي دَلَّ عَلى خُصوصيةِ النبي ﷺ بِذَلِكَ، وَكانَتْ مُتَمَسِّكَةً بِما في كِتابِ الله مِنْ ذَلِكَ، فَلَمّا أخْبَرَها أبو بَكْرٍ بِالحَديثِ تَوَقَّفَتْ عَنْ ذَلِكَ وَلَمْ تَعُدْ إِلَيْهِ»([5]).
وقالَ القاضي عياضٌ رحمه الله: «وَفي تَرْكِ فاطِمَةَ مُنازَعَة أبي بَكْر بَعْدَ احْتِجاجه عَلَيْها بِالحَديثِ: التَّسْليم لِلْإِجْماعِ عَلى قَضية أنَّها لَمّا بَلَغَها الحَديثُ وَبَيَّنَ لَها التّأويل تَرَكَتْ رأيها، ثُمَّ لَمْ يَكُنْ مِنْها وَلا مِنْ ذُرّيتها بَعْد ذَلِكَ طَلَبُ ميراثٍ، ثُمَّ وَلي عَلي الخِلافَة فَلَمْ يَعْدِل بِها عَمّا فَعَلَهُ أبو بَكْر وَعُمَر»([6]).
- لَوْ فَرَضْنا أنَّ فَدَكَ لِفاطِمَةَ سَواءٌ كانَتْ إِرْثاً أوْ هِبَةً فَهي تَدْخُلُ في مِلْكِ فاطِمَةَ رضي الله عنها، وَهي ماتَتْ بَعْدَ النبي ﷺ بِسِتَّةِ أشْهُرٍ، فإلَى مَنْ تَذْهَبُ فَدَكُ؟ تَذْهَبُ إِلَى الوَرَثَةِ. فَعَلي لَهُ الرُّبُعُ لِوُجودِ الفَرْعِ الوارِثِ، والحَسَنُ والحُسَيْنُ وَزَيْنَبُ وأمُّ كُلْثومٍ رضي الله عنهم لَهُمُ الباقي، لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ.
ولَمّا اسْتُخْلِفَ عَليٌّ لم يُعْطِ فَدَكَ لِأوْلادِهِ، فإنْ كانَ أبو بَكْرٍ ظالِماً، وَعُمَرُ ظالِماً، وَعُثْمانُ ظالِماً لأنَّهُمْ مَنَعوا فَدَكَ أهْلَها، فَكَذَلِكَ عَليٌّ ظالِمٌ لأنَّهُ مَنَعَ فَدَكَ أهْلَها وَلم يُعْطِها لِوَرَثَةِ فاطِمَةَ.
قالَ القُرْطُبي رحمه الله: «إِنَّ عَلياً لَمّا وَلي الخِلافَةَ لَمْ يُغَيِّرْها عَمّا عُمِلَ فيها في عَهْدِ أبي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمانَ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِتَمَلُّكِها، وَلا لِقِسْمَةِ شَيْءٍ مِنْها، بَلْ كانَ يَصْرِفُها في الوُجوهِ الَّتي كانَ مَنْ قَبْلَهُ يَصْرِفُها فيها، ثُمَّ كانَتْ بيدِ حَسَنِ بْنِ عَلي، ثُمَّ بيدِ حُسَيْنِ بْنِ عَلي، ثُمَّ بيدِ عَلي بْنِ الحُسَيْنِ، ثُمَّ بيدِ الحُسَيْنِ بْنِ الحَسَنِ، ثُمَّ بيدِ زَيْدِ بْنِ الحُسَيْنِ، ثُمَّ بيدِ عَبْدِاللهِ بْنِ الحُسَيْنِ، ثُمَّ تَوَلّاها بَنو العَبّاسِ عَلى ما ذَكَرَهُ أبو بَكْرٍ البَرْقاني في صَحيحِهِ، وَهَؤُلاءِ كُبَراءُ أهْلِ البَيْتِ رضي الله عنهم وَهُمْ مُعْتَمَدُ الشّيعَةِ وأئِمَّتِهِمْ، لَمْ يُرْوَ عَنْ واحِدٍ مِنْهُمْ أنَّهُ تَمَلَّكَها وَلا وَرِثَها وَلا وُرِثَتْ عَنْهُ، فَلَوْ كانَ ما يَقولُهُ الشّيعَةُ حَقّاً لأخَذَها عَلي أوْ أحَدٌ مِنْ أهْلِ بَيْتِهِ لَمّا ظَفَروا بِها»([7]).
- يَحْتَمِلُ مِنْ قَوْلِها: «لَمْ تُكَلِّمْهُ» أيْ في طَلَبِ الميراثِ كَما جاءَ مُصَرَّحاً بِهِ في رِوايَةِ عَبْدِالرَّزّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عِنْدَ المَرْوَزي، وَهَذا ما نَصَّ عَلَيْهِ التِّرْمِذي حَيْثُ قال رحمه الله: «حَدَّثَنا بِذَلِكَ عَلي بْنُ عيسَى، قالَ: حَدَّثَنا عَبْدُالوَهّابِ بْنُ عَطاءٍ، حَدَّثَنا مُحمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ أبي سَلَمَةَ، عَنْ أبي هُرَيْرَةَ: أنَّ فاطِمَةَ جاءَتْ أبا بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما تَسْألُ ميراثَها مِنْ رَسولِ الله ، فَقالا: سَمِعْنا رَسولَ الله يَقولُ: «إِنّي لا أورَثُ». قالَتَ: واللهِ لا أُكَلِّمُكُما أبَداً. فَماتَتْ وَلا تُكَلِّمُهُما.
قالَ عَلي بْنُ عيسَى: مَعْنَى لا أُكَلِّمُكُما: تَعْني في هَذا الميراثِ أبَداً، أنْتُما صادِقانِ».
- ما يَضُرُّ أبا بَكْرٍ إِذا غَضِبَتْ عَلَيْه فاطِمَةُ إِنْ كانَ اللهُ رَضي عَنْهُ؟ فَقَدْ قالَ اللهُ تَعالى: ﴿لَقَدْ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنِ ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ ٱلشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ ٱلسَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا﴾ [الفتح: 18]. وأبو بَكْرٍ كانَ رأسَ المُؤمِنينَ الَّذينَ بايَعوا النبي ﷺ في ذَلِكَ اليَوْمِ، فَمَنْ رضي الله عنه وَرَضي عَنْهُ الرَّسولُ ؛ لا يَضرُّهُ غَضَبُ مَنْ غَضِبَ.
ونَقولُ أيْضاً: لَوْ جَعَلَ أيُّ إِنْسانٍ نَفْسَهُ مَكانَ أبي بَكْرٍ، وَجاءَتْه فاطِمَةُ رضي الله عنها تُطالِبُ بِالميراثِ وَهو قَدْ سَمِعَ النبي ﷺ يَقولُ: «لا نورَثُ»، فَهَلْ يُقَدِّمُ قَوْلَ النبي ﷺ المَعْصومِ، أوْ يُقَدِّمُ رِضا فاطِمَةَ رضي الله عنها؟
وَقَدْ رويَ عَنْ زَيْدِ بْنِ عَلي بْنِ الحُسَيْنِ بْنِ عَلي أنَّهُ قالَ: «أمّا أنا فَلَوْ كُنْتُ مَكانَ أبي بَكْرٍ رضي الله عنه لَحَكَمْتُ بِمِثْلِ ما حَكَمَ بِهِ أبو بَكْرٍ رضي الله عنه في فَدَكَ»([8]).
- إِنَّ أهْلَ السُّنَّةِ في هَذِهِ المَسْألَةِ لا يَبْحَثونَ عَن عُذْرٍ لأبي بَكْرٍ، وإنَّما يَبْحَثونَ عَن عُذْرٍ لِفاطِمَةَ؛ لأنَّهُم يَرَوْنَ أنَّ أبا بَكْرٍ يَسْتَدِلُّ بِحَديثٍ سَمِعَهُ مِن النبي ﷺ رَواهُ هو، وَعُثْمانُ، وَعُمَرُ، وَعَلي نَفْسُهُ، والعَبّاسُ، وَعَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَسَعْدُ بْنُ أبي وَقّاصٍ، والزُّبَيْرُ بْنُ العَوّامِ، كُلُّ هَؤُلاءِ رَوَوْا الحَديثَ عَن النَّبي : «إِنّا لا نورَثُ، ما تَرَكْنا صَدَقَةٌ».
وَفاطِمَةُ رضي الله عنها لَمّا ما قَبِلَتْ مِنْهُ هَذا الكَلامَ حاوَلَ أهْلُ السُّنَّةِ أنْ يَبْحَثوا عنْ عُذْرٍ لِفاطِمَةَ لا لِأبي بَكْرٍ؛ لأنَّهُمْ لا يَرَوْنَ أنَّ أبا بَكْرٍ هُنا أخْطأ في حَقِّ فاطِمَةَ.
يَقول الإِمامُ ابْنُ كَثيرٍ رحمه الله: «وأمّا تَغَضُّبُ فاطِمَةَ رضي الله عنها وأرْضاها عَلى أبي بَكْرٍ رضي الله عنه وأرْضاهُ فَما أدْري ما وَجْهُهُ. فإنْ كانَ لِمَنْعِهِ إياها ما سألَتْهُ مِنَ الميراثِ فَقَدِ اعْتَذَرَ إِلَيْها بِعُذْرٍ يَجِبُ قَبولُهُ، وَهو ما رَواهُ عَنْ أبيها رَسولِ الله ﷺ أنَّهُ قالَ: «لا نورَثُ ما تَرَكْنا صَدَقَةٌ»، وَهي مِمَّنْ تَنْقادُ لِنَصِّ الشّارِعِ الَّذي خَفي عَلَيْها قَبْلَ سُؤالِها الميراثِ، كَما خَفي عَلَى أزْواجِ النبي ﷺ حَتَّى أخْبَرَتْهُنَّ عائِشَةُ بِذَلِكَ، وَوافَقْنَها عَلَيْهِ.
وَلَيْسَ يُظَنُّ بِفاطِمَةَ رضي الله عنها أنَّها اتَّهَمَتِ الصِّدّيقَ رضي الله عنه فيما أخْبَرَها بِهِ، حاشاها وَحاشاهُ مِنْ ذَلِكَ، كَيْفَ وَقَدْ وافَقَهُ عَلى رِوايَةِ هَذا الْحَديثِ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ، وَعُثْمانُ بْنُ عَفّانَ، وَعَلي ابْنُ أبي طالِبٍ، والعَبّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَطَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِاللهِ، والزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوّامِ، وَسَعْدُ بْنُ أبي وَقّاصٍ، وأبو هُرَيْرَةَ، وَعائِشَةُ رضي الله عنهم أجْمَعينَ كَما سَنُبَيِّنُهُ قَريبًا. وَلَوْ تَفَرَّدَ بِرِوايَتِهِ الصِّدّيقُ رضي الله عنه لَوَجَبَ عَلَى جَميعِ أهْلِ الْأرْضِ قَبولُ رِوايَتِهِ والِانْقيادُ لَهُ في ذَلِكَ.
وإنْ كانَ غَضَبُها لأجل ما سألت الصّديق إِذا كانَتْ هَذِهِ الْأراضي صَدَقَةً لا ميراثًا أنْ يَكونَ زَوْجُها يَنْظُرُ فيها، فَقَدِ اعْتَذَرَ بِما حاصِلُهُ: أنَّهُ لَمّا كانَ خَليفَةَ رَسولِ الله ﷺ فَهو يَرَى أنَّ فَرْضًا عَلَيْهِ أنْ يَعْمَلَ بِما كانَ يَعْمَلُهُ رَسولُ الله ، وَيَلي ما كانَ يَليهِ رَسولُ اللهِ، وَلِهَذا قالَ: وإنّي واللهِ لا أدَعُ أمْرًا كانَ يَصْنَعُهُ فيهِ رَسولُ الله إِلّا صَنَعْتُهُ»([9]).
- قالَ ابْنُ عَبْدِالبَرِّ رحمه الله: «وَكَيْفَ يَسوغُ لِمُسْلِمٍ أنْ يَظُنَّ بِأبي بَكْرٍ رضي الله عنه مَنْعَ فاطِمَةَ ميراثَها مِنْ أبيها وَهو يَعْلَمُ بِنَقْلِ الكافَّةِ أنَّ أبا بَكْرٍ كانَ يُعْطي الأحْمَرَ والأسْوَدَ حُقوقَهُمْ، وَلَمْ يَسْتأثِرْ مِنْ مالِ الله لِنَفْسِهِ وَلا لِبَنيهِ وَلا لِأحَدٍ مِنْ عَشيرَتِهِ بِشَيْءٍ، وإنَّما أجْراهُ مَجْرَى الصَّدَقَةِ؟ ألَيْسَ يَسْتَحيلُ في العُقولِ أنْ يَمْنَعَ فاطِمَةَ وَيَرُدَّهُ عَلَى سائِرِ المُسْلِمينَ وَقَدْ أمَرَ بَنيهِ أنْ يَرُدّوا ما زادَ في مالِهِ مُنْذُ وَلي عَلَى المُسْلِمينَ؟ وَقالَ: إِنَّما كانَ لَنا مِنْ أمْوالِهِمْ ما أكَلْنا مِنْ طَعامِهِمْ، وَلَبِسْنا عَلَى ظُهورِنا مِنْ ثيابِهِمْ؟
وَرَوَى أبو ضَمْرَةَ أنَسُ بْنُ عياضٍ عَنْ عُبَيْدِاللهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ عَبْدِالرَّحْمنِ بْنِ القاسِمِ عَنْ أبيهِ عَنْ عائِشَةَ أنَّ أبا بَكْرٍ لَمّا حَضَرَتْهُ الوَفاةُ قالَ لِعائِشَةَ: لَيْسَ عِنْدَ آلِ أبي بَكْرٍ مِنْ هَذا المالِ شَيْءٌ إِلّا هَذِهِ اللُّقْمَةُ، والغُلامُ، الصَّيْقَلُ كانَ يَعْمَلُ سُيوفَ المُسْلِمينَ وَيَخْدِمُنا، فاذا مِتُّ فادْفَعيهِ إِلَى عُمَرَ.
فَلَمّا ماتَ دَفَعْتُهُ إِلَى عُمَرَ، فَقالَ عُمَرُ رحمه الله: رَحِمَ اللهُ أبا بَكْرٍ؛ لَقَدْ أتْعَبَ مَنْ بَعْدَهُ. فإنْ قيلَ: فَكَيْفَ سَكَنَ أزْواجُ النبي ﷺ بَعْدَ وَفاتِهِ في مَساكِنِهِنَّ اللّاتي تَرَكَهُنَّ رَسول فيها إِنْ كُنَّ لم يَرِثْنَهُ؟ وَكَيْفَ لم يَخْرُجْنَ عَنْها؟ قيلَ: إِنَّما تُرِكْنَ في المَساكِنِ الَّتي كُنَّ يَسْكُنَّها في حَياةِ رَسولِ الله ؛ لأنَّ ذَلِكَ كانَ مِنْ مُؤْنَتِهِنَّ الَّتي كانَ رَسولُ الله اسْتَثْناها لَهُنَّ كَما اسْتَثْنَى لَهُنَّ نَفَقَتَهُنَّ حينَ قالَ: «لا يَقْتَسِمُ وَرَثَتي ديناراً وَلا دِرْهَماً، ما تَرَكْتُ بَعْدَ نَفَقَةِ نِسائي وَمَئونَةِ عامِلي فَهو صَدَقَةٌ».
وَرَوَى حَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أبي سَلَمَةَ، عَنْ أبي هُرَيْرَةَ، عَنْ أبي بَكْرٍ أنَّهُ قالَ: سَمِعْتُ رَسولَ الله يَقولُ: «لا نورَثُ». وَلَكِنّي أعْوُلُ مَنْ كانَ رَسولُ الله يَعولُ، وأنْفِقُ عَلَى مَنْ كانَ رَسولُ الله يُنْفِقُ. وَرَوَى الثَّوْري وَمالِكٌ وابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ أبي الزِّنادِ عَن الأعْرَجِ عَنْ أبي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ: رَسولُ الله : «لا يَقْتَسِمُ وَرَثَتي ديناراً وَلا دِرْهَماً، ما تَرَكْتُ بَعْدَ نَفَقَةِ نِسائي وَمَئونَةِ عامِلي فَهو صَدَقَةٌ»... قالَ أهْلُ العِلْمِ: فَمَساكِنُهُنَّ كانَتْ في مَعْنَى نَفَقاتِهِنَّ في أنَّها كانَتْ مُسْتَثْناةً لَهُنَّ بَعْدَ وَفاتِهِ مِمّا كانَ لَهُ في حَياتِهِ.
قالوا: وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ أنَّ مَساكِنَهُنَّ لم يَرِثْها عَنْهُنَّ وَرَثَتُهُنَّ. قالوا: وَلَوْ كانَ ذَلِكَ مِلْكاً لَهُنَّ كانَ لا شَكَّ قَدْ وَرِثَهُ عَنْهُنَّ وَرَثَتُهُنَّ.
قالوا: وَفي تَرْكِ وَرَثَتِهِنَّ ذَلِكَ دَليلٌ عَلَى أنَّها لم تَكُنْ لَهُنَّ مِلْكاً، وإنَّما كانَ لَهُمْ سُكْناها حَياتَهُنَّ، فَلَمّا توفّينَ جُعِلَ ذَلِكَ زيادَةً في المَسْجِدِ الَّذي يَعُمُّ المُسْلِمينَ نَفْعُهُ، كَما فُعِلَ ذَلِكَ في الَّذي كانَ لَهُنَّ مِن النَّفَقاتِ في تَرِكَةِ رَسولَ الله ، لَمّا مَضَيْنَ لِسَبيلِهِنَّ زيدَ إِلَى أصْلِ المالِ، فَصُرِفَ في مَنافِعِ المُسْلِمينَ مِمّا يَعُمُّ جَميعَهُمْ نَفْعُهُ»([10]).
- قالَ القاضي عياضٌ رحمه الله: «وَفي تَرْكِ فاطِمَةَ مُنازَعَة أبي بَكْر بَعْدَ احْتِجاجه عَلَيْها بِالحَديثِ: التَّسْليم لِلْإِجْماعِ عَلى قَضية أنَّها لَمّا بَلَغَها الحَديثُ وَبَيَّنَ لَها التّاويل تَرَكَتْ رأيها، ثُمَّ لَمْ يَكُنْ مِنْها وَلا مِنْ ذُرّيتها بَعْد ذَلِكَ طَلَبُ ميراثٍ، ثُمَّ وَلي عَلي الخِلافَة فَلَمْ يَعْدِل بِها عَمّا فَعَلَهُ أبو بَكْر وَعُمَر»([11]).
هل فدك إرث أم هبة؟
مَنْ قالَ: إِنَّهُ إِرْثٌ، فَيُقالُ لَهُمْ: إِنَّ النبي ﷺ قالَ: «إِنّا لا نورَثُ، ما تَرَكْنا صَدَقَةٌ»، بِمَعْنَى: الَّذي تَرَكْنا هو صَدَقَةٌ، وَلِذَلِك جاءَ في بَعْضِ طُرُقِ الحَديثِ عِنْدَ مُسْلِمٍ: «ما تَرَكْنا فَهو صَدَقَةٌ».
وحَرَّفَ البَعْضُ هَذا الحَديثَ فَقالَ: «ما تَرَكْنا صَدَقَةً»، فَيَجْعَلونَ «ما» نافيةً، أيْ لم نَتْرُكْ صَدَقَةً!!
وأهْلُ السُّنَّةِ يَجْعَلونَ «ما» هُنا مَوْصولَةً، وَهي الرِّوايَةُ الصَّحيحَةُ الَّتي في الصَّحيحَيْنِ: «ما تَرَكْنا صَدَقَةٌ» بالرَّفْعِ، وَيُؤَكِّدُ هَذِهِ الرِّوايَةَ رِوايَةُ: «ما تَرَكْنا فَهو صَدَقَةٌ».
فالنَّبي لا يورَثُ صَلَواتُ الله وَسَلامُهُ عَلَيْه، بَلْ إِنَّ الأنْبياءَ جَميعاً لا يورَثونَ عَلَى الصَّحيحِ.
وَهُمْ يَسْتَدِلّونَ بِقَولِ الله تَبارَكَ وَتَعالَى عَنْ زَكَريا: ﴿يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَٱجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا يَازَكَريَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ ٱسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا﴾ [مريم: 6 ـ 7].
قالوا: هُنا أثْبَتَ الوِراثَةَ، وأثْبَتَها مَرَّةً ثانيةً فَقالَ عَنْ سُلَيمانَ: ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَاأَيُّهَا ٱلنَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ ٱلطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ ٱلْفَضْلُ ٱلْمُبِينُ﴾ [النمل: 16].
وَتَفْسيرُ هاتَيْنِ الآيَتَينِ ما ياتي:
أمّا الآيَةُ الأولَى وَهي قَوْلُ الله تَبارَكَ وَتَعالَى: ﴿يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ﴾ [مريم: 6]، فَنَقولُ:
أوَّلاً: إِنَّهُ لا يَليقُ بِرَجُلٍ صالِحٍ أنْ يَسألَ اللهَ تَبارَكَ وَتَعالَى وَلَداً حَتَّى يَرِثَ المالَ فَقَطْ، فَكَيْفَ نَرْضَى هَذا لِنَبي كَريمٍ وَهو زَكَريا أنْ يَسْألَ وَلَداً لِكَيْ يَرِثَ مالَهُ؟!
ثانياً: المَشْهورُ أنَّ زَكَريا كانَ فَقَيراً يَعْمَلُ نَجّاراً([12])، فأيُّ مالٍ عِنْدَ زَكَريا حَتَّى يَطْلُبَ مِنَ الله تَبارَكَ وَتَعالَى أنْ يَرْزُقَهَ وارِثاً؟ بَل الأصْلُ في أنْبياءِ الله تَبارَكَ وَتَعالَى أنَّهُمْ لا يُبْقونَ المالَ، بَلْ يَتَصَدَّقونَ بِهِ في وُجوهِ الخَيرِ.
ثالِثاً: وَهو ما يَدُلُّ عَلَيْه سَياقُ الآيَةِ وَهو قَوْلُ الله تَبارَكَ وَتَعالَى: ﴿يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ﴾ ، كَمْ شَخْصٌ في آلِ يَعْقوبَ؟ وأيْنَ يَحْيَى مِن آلِ يَعْقوبَ؟ آلُ يَعْقوبَ هُم موسَى، وَداودُ، وَسُلَيْمانُ، وَيَحْيَى، وَزَكَريا، وأقْوامُهُمْ، بَلْ كانَ كُلُّ أنْبياءِ بَني إِسْرائيلَ مِنْ آلِ يَعْقوبَ؛ لأنَّ إِسْرائيلَ هو يَعْقوبُ، فَكَيْفَ بِبَقيةِ بَني إِسْرائيلَ مِنَ غَيْرِ الأنْبياءِ؟ إِذَاً فَكَمْ سَيَكونُ نَصيبُ يَحْيَى؟
ثُمَّ إِنَّهُ مَحْجوبٌ بِالفَرْعِ الوارِثِ، فَلا شَكَّ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ﴾ يَرُدُّ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقولُ: إِنَّهُ أرادَ وِراثَةَ المالِ، بَلْ ذَكَرَ يَعْقوبَ لأنَّ يَعْقوبَ نَبي وَزَكَريا نَبي، فأرادَ أنْ يَرِثَ النُّبوةَ والعِلْمَ والحِكْمَةَ.
رابِعاً: وَهو قَوْلُ النَّبي : «إِنّا مَعاشِرَ الأنْبياءِ لا نورَثُ»، أوْ قَوْلُه: «إِنّا لا نورَثُ، ما تَرَكْنا صَدَقَةٌ»، وَجاءَ في الحَديثِ «إِنَّ الأنْبياءَ لَمْ يورِّثوا دِرْهَماً وَلا ديناراً، وإنَّما وَرَّثوا العِلْمَ»([13]).
وأمّا الآيَةُ الثّانيةُ وَهي قَوْلُ الله تَبارَكَ وَتَعالَى: ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ﴾ ، فَكَذَلِكَ لم يَرِثْ مِنْهُ المالَ، وإنَّما وَرِثَ النُّبوةَ والحِكْمَةَ والعِلْمَ لِأمْرَيْنِ اثْنَينِ:
الأوَّلُ: قَد اشْتُهِرَ أنَّ لداوُدَ مِئَةَ زَوْجَةٍ، وَثَلاثَمِئَةِ سرّيةٍ (أي أمَةٍ)، وَلَه كَثيرٌ مِنَ الأوْلادِ، فَكَيْفَ لا يَرِثُهُ إِلّا سُلَيْمانُ؟ بَلْ إِخْوَةُ سُلَيْمانَ أيْضاً يَرِثونَ، فَتَخْصيصُ سُلَيْمانَ بِالذِّكْرِ لَيْسَ بِسَديدٍ إِنْ كانَ مَعَهُ وَرَثَةٌ آخَرونَ.
فَلَوْ كانَ الأمْرُ إِرْثاً عادياً ما كانَ لِذِكْرِهِ فائِدَةٌ في كِتابِ اللهِ، وَلَكانَ تَحْصيلَ حاصِلٍ؛ لِأنَّ إِرثَ المالِ أمْرٌ عادي، والَّذي لا شَكَّ فيهِ أنَّ اللهَ أرادَ شَيْئاً آخَرَ خَصَّهُ بِالذِّكْرِ وَهو إِرْثُ النُّبوةِ.
وأمّا قَوْلُهُم: إِنَّها هِبَةٌ وَهَديةٌ مِن النبي ﷺ وَهَبَها لِفاطِمَةَ يَوْمَ خَيْبَرَ كَما رَوَى الكاشانيُّ في تَفْسيرِهِ أنَّ النبي ﷺ بَعْدَ فَتْحِ خَيْبَرَ وَبَعْدَ أنْ أنْزَلَ اللهُ تَبارَكَ وَتَعالَى عَلَيْه: ﴿وَآتِ ذَا ٱلْقُرْبَى حَقَّهُ وَٱلْمِسْكِينَ وَٱبْنَ ٱلسَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا﴾ [الإسراء: 26]، فَنادَى فاطِمَةَ فأعْطاها فَدَكَ([14]).
فَنَقولُ:
أوَّلاً: هَذِهِ القِصَّةُ مَكْذوبَةٌ، وَلَمْ تَنْزِلْ هَذِهِ الآيَةُ في هَذا الوَقْتِ، وَلَمْ يُعْطِ النبي ﷺ لِفاطِمَةَ رضي الله عنها شَيْئاً، بَل الصَّحيحُ أنَّ فاطِمَةَ طَلَبَتْ فَدَكَ مِنْ بابِ الإِرْثِ لا مِن بابِ الهِبَةِ، وَفَتْحُ خَيْبَر في أوَّلِ السَّنَةِ السّابِعَةِ، وَزَيْنَبُ بِنْتُ النبي ﷺ توفّيتْ في الثّامِنَةِ مِن الهِجْرَةِ([15])، وأمُّ كُلْثومٍ بِنْتُ النبي ﷺ توفّيتْ في التّاسِعَةِ مِن الهِجْرَةِ([16])، فَكَيْفَ يُعْطي فاطِمَةَ وَيَدَعُ أُمَّ كُلْثوم وَزَيْنَبَ صَلَواتُ الله وَسَلامُهُ عَلَيْهِ؟ فَهَذا اتِّهامٌ لِلنبي ﷺ بأنَّهُ كانَ يُفَرِّقُ بَيْنَ أوْلادِهِ ﷺ.
وَلَمّا جاءَ أبو النُّعْمانِ بْنِ بَشيرٍ رضي الله عنه إِلَى النبي ﷺ وَقَدْ وَهَبَ ابْنَهُ النُّعْمانَ مِنْ مالِهِ، وأراد أنْ يُشْهِدَ النَّبي عَلى ما وَهَبَهُ لابْنِهِ، فَقالَ النَّبي : «يا بَشيرُ، ألَكَ وَلَدٌ سِوَى هَذا»؟ قالَ: نَعَمْ. فَقالَ النَّبي : «أكُلَّهُمْ وَهَبْتَ لَهُ مِثْلَ هَذا»؟ قالَ: لا. قالَ: «فَلا تُشْهِدْني إِذَاً؛ فإنّي لا أشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ»([17])، فَسَمّاه جَوْراً، وَذَلِكَ أنْ يُفَضِّلَ بَعْضَ الأوْلادِ عَلَى بَعْضٍ، فَهَذا النَّبي الكَريمُ الَّذي لا يَشْهَدُ عَلَى الجَوْرِ، هَلْ يَفْعَلُ الجَوْرَ؟! أبَداً، وَنَحْنُ نُنَزِّهُهُ ﷺ عَنْ ذَلِكَ.
ثانياً: إِنْ كانَتْ هِبَةً، فإمّا أنْ تَكونَ قَبضَتْها أوْ لم تَقْبِضْها، فإنْ كانَتْ قَبَضَتْها فَكَيْفَ جاءَتْ تُطالِبُ بِها؟ وإنْ لم تَكُنْ قَبَضَتْها فإنَّ الهِبَةَ إِنْ لم تُقْبَضْ فَكأنَّها لم تُعْطَ.
فَفي كِلْتا الحالَتَيْنِ ــ سَواءٌ كانَتْ إِرْثاً أوْ هِبَةً ــ فالقَولُ ساقِطٌ؛ فَهي لا إِرْثٌ وَلا هِبَةٌ.
والصَّحيحُ أنَّ فَدَكَ كانَتْ بيدَ رَسولِ الله ، فَلَمّا توفّي كانَتْ بيدِ أبي بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرَ.
وَفي عَهْدِ عُمَرَ جاءَ العَبّاسُ وَعَلي وَطَلَبا مِنْهُ أن تَكونَ بيدَيْهِما، فأعْطاهُما إياها يُديرانِها. ثُمَّ كانَتْ بيدِ عَلي وَظَلَّتْ عِنْدَهُ إِلَى أن توفّي سَنَةَ أرْبَعينَ مِن الهِجْرَةِ. ثُمَّ بيدِ الحَسَنِ، ثُمَّ الحُسَيْنِ، ثُمَّ الحَسَنِ بْنِ الحَسَنِ، وَعَلي بْنِ الحُسَيْنِ، ثُمَّ زَيْدِ ابْنِ الحَسَنِ([18]).
وَنَحْنُ نُنَزِّهُ الجَميعَ: نُنَزِّهُ أبا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمانَ وَعَلياً رضي الله عنه أجْمَعينَ، وَمَنْ كانَتْ فَدَكُ في يَدِهِ إِلَى زَيْدِ بْنِ الحَسَنِ.
فَلَمْ تَكُنْ فَدَكُ هِبَةً، وَلَم تَكُنْ كَذَلِك إِرْثاً مِنَ النَّبي ؛ وَكَيْفَ يَتْرُكُ النبي ﷺ كُلَّ هَذا المالِ وَهو الزّاهِدُ؟ وَيَدُلُّ عَلَى هَذا حَديثُ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها، وَفيهِ: أنَّ النبي ﷺ دَخَلَ عَلَيْها وَهو ساهِمُ الوَجْهِ، قالَتْ: فَحَسِبْتُ ذَلِكَ مِنْ وَجَعٍ، فَقُلْتُ: يا رَسولَ اللهِ، أراكَ ساهِمَ الوَجْهِ، أفَمِنْ وَجَعٍ؟ فَقالَ: «لا، وَلَكِنَّ الدَّنانيرَ السَّبْعَةَ الَّتي أتَيْنا بِها أمْسِ، أمْسَيْنا وَلَمْ نُنْفِقْها»([19]).
وَيَدُلُّ عَلى هَذا أيْضاً أنَّ النبي ﷺ توفي وَدِرْعُهُ مَرْهونَةٌ عِنْد يَهودي مُقابِلَ ثَلاثينَ صاعاً اسْتَلَفَها([20])، فَمَنْ عِنْدهُ فَدَكُ وَسَهْمُ خَيْبَرَ يَرْهَنُ دِرْعَهُ مُقابِلَ ثَلاثينَ صاعاً؟!
وأمّا ما يُذْكَرُ مِنْ أنَّ فاطِمَةَ رضي الله عنها لَمّا مُنِعَتْ فَدَكَ غَضِبَتْ وَذَهَبَتْ إِلَى قَبْرِ أبيها تَشْتَكي إِلَيْهِ، فإنَّ هَذا كَذِبٌ، بَلْ وَلا يَليقُ بِفاطِمَةَ رضي الله عنها وأرْضاها؛ فإنَّ اللهَ يَقولُ عَنِ العَبْدِ الصّالِحِ النَّبي الكَريمِ يَعقوبَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ﴿قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى ٱللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [يوسف: 86].
والمَشْهورُ ــ كما مَرَّ مَعَنا ــ أنَّ أبا بَكْرٍ تَرَضّاها حَتَّى رَضيتْ، كَما أخْرَجَ هَذا كَثيرٌ مِنْ أهْلِ العِلْمِ عَن الشَّعْبي مُرْسَلاً صَحيحاً([21])، والشَّعْبي مِنْ كِبارِ التّابِعينَ، واللهُ أعْلَمُ بِحَقيقَةِ الأمْرِ.
وَكَذَلِكَ المَشْهورُ أنَّ فاطِمَةَ غَسَّلَتْها أسْماءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ وأسْماءُ زَوْجَةُ أبي بَكْرٍ الصِّدّيقِ، فَكَيْفَ تُغَسِّلُها زَوْجَةُ أبي بَكْرٍ الصّدّيقِ وأبو بَكْرٍ لا يَدْري بِمَوْتِها؟
والصَّحيحُ أنَّها دُفِنَتْ لَيْلاً وَلَمْ يُؤْذَنْ أبو بَكْرٍ فيها.
وعائِشَةُ رضي الله عنها دُفِنَتْ لَيْلاً، بَلْ وَسَيِّدُ الخَلْقِ رَسولُ الله دُفِنَ لَيْلاً.
([1]) سُنَنُ البَيْهَقي (6/301).
([3]) أَخْرَجَهُ البُخاري (5718)، وَمُسْلِمٌ (2558) مِنْ حَديثِ أَنَسٍ وأبي أَيّوبٍ الأَنْصاري رضي الله عنهما.
([6]) شَرْحُ النَّوَوي عَلى صَحيحِ مُسْلِمٍ (12/73).
([8]) أَخْرَجَهُ البَيْهَقي في «الكُبْرَى» (6/302).
([9]) السيرة لابن كثير (4/569 ــ 570).
([10]) التَّمْهيدُ (8/164 ــ 180).
([11]) شَرْحُ النَّوَوي عَلى صَحيحِ مُسْلِمٍ (12/73).
([12]) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (2379) مِنْ حَديثِ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه.
([13]) أَخْرَجَهُ أبو داوُدَ (3641) مِنْ حَديثِ أَبي الدَّرْداءِ رضي الله عنه، وَصَحَّحَهُ الأَلبْاني في «صَحيحِ سُنَنِ أَبي داوُدَ».
([14]) تَفْسيرُ الصّافي (3/186).
([15]) سيرُ أَعْلامِ النُّبَلاءِ (2/250)، الإِصابَةُ (4/206).
([16]) سيرُ أَعْلامِ النُّبَلاءِ (2/252)، الإِصابَةُ (4/466).
([17]) أَخْرَجَهُ البُخاري (2507)، وَمُسْلِمٌ واللَّفْظُ لَهُ (1623).
([19]) أَخْرَجَهُ أحْمَدُ (6/314). وَمَعْنَى «ساهِمَ الوَجْهِ» أَيْ: مُتَغَيِّرَ اللَّوْنِ. انظرْ: النِّهايَةَ في غَريبِ الحَديثِ والأَثَرِ، مادَّةَّ: (سَهَمَ) (2/429)