ذكروا أن معاوية سبَّ عليًّا، وأمر بسبه، بل جعل ذلك سنة، فكان عليٌّ يُسَبُّ على المنابر في جميع الجوامع، واستمر ذلك ردحًا من الزمن حتى أبطله ومنعه الخليفة عمر بن عبد العزيز.

واستدلوا بما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه رضي الله عنه، قال: أمر معاوية بن أبي سفيان سعدًا فقال: ما منعك أن تسبَّ أبا التراب؟ فقال: أما ما ذكرت ثلاثًا قالهن له رسول الله ﷺ فلن أسبه، لأن تكون لي واحدة منهن أحب إلي من حمر النَّعَم، سمعت رسول الله ﷺ يقول له، خلفه في بعض مغازيه. فقال له عليٌّ: يا رسول الله خلفتني مع النساء والصبيان؟

فقال له رسول الله ﷺ: «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ إلا أنه لا نبوة بعدي»، وسمعته يقول يوم خيبر: «لأُعطِينَّ الراية رجلًا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله». قال فتطاولنا لها فقال: «ادعوا لي عليًّا». فأتي به أرْمَد، فبصق في عينه ودفع الراية إليه، ففتح الله عليه، ولما نزلت هذه الآية: ﴿ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ﴾ دعا رسول الله ﷺ عليّاً وفاطمة وحسنًا وحسينًا فقال: «اللهم هؤلاء أهلي»([1]).

فهذه المسألة ــ وهي سب عليٍّ في المنابر ــ لا تصح لأمور:

1 ــ أن سب عليٍّ رضي الله عنه على المنابر لم يثبت أبدًا.

2 ــ أن معاوية لقب عليًّا بأحب الألقاب إليه، وهو أبو تراب.

3 ــ أن معاوية روى في فضل عليٍّ حديث المنزلة، فعن قيس بن أبي حازم قال: جاء رجل إلى معاوية فسأله عن مسألة فقال: سل عنها عليَّ ابن أبي طالب، هو أعلم. فقال: أريد جوابك يا أمير المؤمنين فيها. قال: ويحك لقد كرهت رجلًا كان رسول الله ﷺ يغره بالعلم غرًّا، ولقد قال رسول الله ﷺ: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى». ولقد كان عمر ابن الخطاب يسأله فيأخذ عنه، وكان إذا أشكل على عمر شيء؛ فقال: ههنا عليّ، قم لا أقام الله رجليك، ومحا اسمه من الديوان([2]).

وعن أبي مسلم الخولاني أنه دخل على معاوية فقال له: أنت تنازع عليًّا، أأنت مثله؟ فقال معاوية: لا والله! إني لأعلم أن عليًّا أفضل وأحق بالأمر([3]).

وفي الصُّلح بين عليٍّ ومعاوية ، قال معاوية للكاتب: وليبدأ به قبل اسمي لفضله وسابقته([4])

ولما جاء خبر قتل عليٍّ إلى معاوية بكي واسترجع، فقالت له امرأته: تبكي عليه وكنت تقاتله؟! فقال: ويحك! إنك لا تدرين ما فقد الناس من الفضل والفقه والعلم([5]).

4 ــ ثم لماذا معاوية يسأله أمام الناس، وهو يعرف سعدًا من هو.

5 ــ ولماذا سكت ولم يرد على سعد، أو يعيب عليًّا بشيء.

6 ــ ولم يثبت أن معاوية سب عليًّا أو أمر بسبه في حياته، سواء أثناء الحرب أو بعدها، فكيف بعد تنازل الحسن له!

7 ــ الحسن والحسين كانا يفدان على معاوية ويكرمهما، فهل يقبل هذا منهما وهو يسب أباهما؟!

8 ــ ما عرف عن معاوية من الحلم وحسن السياسة، ينافي الأمر بسب عليٍّ.

9 ــ لم ينقل عن أحد من الصحابة أنه أنكر ذلك، فدل على عدم حدوثه.

10 ــ نقل خلاف ذلك لما رد معاوية على من سب عليًّا.

وأما ما قول معاوية لسعد: ما منعك أن تسب أبا تراب، فهذا وإن كان قد يفهم منه رضا معاوية أو طلبه لسب عليٍّ، إلا أنه ليس بصريح، ويمكن أن يرد عليه بما يأتي:

1 ــ ذكر مسلم هذا الحديث في الشواهد لا في الأصول، فلم يخرجه احتجاجًا.

وقد قال في مقدمة صحيحه: «فإنا نتوخى أن نقدم الأخبار التي هي أسلم من العيوب من غيرها وأنقى من أن يكون ناقلوها أهل استقامة في الحديث وإتقان لما نقلوا لم يوجد في روايتهم اختلاف شديد ولا تخليط فاحش كما قد عثر فيه على كثير من المحدثين وبان ذلك في حديثهم، فإن نحن تقصينا أخبار هذا الصنف من الناس أتبعناها أخباراً يقع في أسانيدها بعض من ليس بالموصوف بالحفظ والإتقان كالصنف المقدم قبلهم» اهــ.

فالإمام مسلم يقدّم اللفظ الأصحَّ والمحفوظ في الرواية، ثم يُتبعه بما هو دونه.

وقد تفرّد بزيادة السب بُكير بن مسمار، وخالف بذلك سعيد بن المسيب، حيث رواه عن عامر بن سعد، ثم سمعه من سعد نفسه، ولم يذكر السَّب. وكذا رواه مصعب بن سعد عن أبيه ولم يذكر السَّب.

وقدَّم الإمام مسلم روايةَ سعيد بن المسيب ورواية مصعب بن سعد إشارةً إلى ضعف رواية بُكير، والله أعلم.

والحديث أخرجه البخاري ومسلم([6])، من طريق إبراهيم بن سعد عن أبيه، وليس فيه السب.

وأخرجه أحمد([7]) من طريق عائشة بنت سعد عن أبيها، وليس فيه السب.

فتبين أن رواية السب تفرد بها بكير بن مسمار، وبكير تكلم فيه بعض أهل العلم([8]).

ومما استدلوا به: عن عبد الرحمن بن سابط قال: قدِمَ معاويةُ في بعض حجّاته، فدخل عليه سعد، فذكروا عليًّا، فنال منه. فغضب سعد، وقال: تقول هذا لرجل سمعت رسول الله ﷺ يقول: «من كنت مولاه فعليٌّ مولاه»، وسمعته يقول: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي»، وسمعته يقول: «لأُعْطِيَنَّ الرايةَ اليوم رجلًا يحب الله ورسوله»([9]).

            والسبب هنا ــ إن صحَّ وهو لا يصح ــ يمكن أن يُحمل على التَّلاحي وشدَّة الخصومة، وليس السبب المعهود، كما جاء في حديث مالك بن أوس بن الحدثان النصري، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه دعاه، إذ جاءه حاجبه يرفا، فقال: هل لك في عثمان، وعبد الرحمن، والزبير، وسعد يستأذنون؟ فقال: نعم فأدخلهم، فلبث قليلًا ثم جاء فقال: هل لك في عباس، وعليّ يستأذنان؟ قال: نعم. فلما دخلا قال عباس: يا أمير المؤمنين اقضِ بيني وبين هذا، وهما يختصمان في الذي أفاء الله على رسوله ﷺ من بني النضير، فاستبَّ عليٌّ وعباس([10]).

وفي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قال النبي ﷺ: «لا تسبوا أصحابي»([11]).

وعن معاذ بن جبل قال: خرجنا مع رسول الله ﷺ عام غزوة تبوك، فكان يجمع الصلاة، فصلى الظهر والعصر جميعًا، والمغرب والعشاء جميعًا، حتى إذا كان يومًا أخر الصلاة، ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعًا، ثم دخل، ثم خرج بعد ذلك، فصلى المغرب والعشاء جميعًا، ثم قال: إنكم ستأتون غدًا، إن شاء الله عين تبوك، وإنكم لن تأتوها حتى يضحي النهار، فمن جاءها منكم فلا يمس من مائها شيئًا حتى آتي. فجئناها وقد سبقنا إليها رجلان، والعين مثل الشراك تبض بشيء من ماء، قال فسألهما رسول الله ﷺ: هل مسستما من مائها شيئًا؟ قالا: نعم، فسبهما النبي ﷺ، وقال لهما ما شاء الله أن يقول([12]).

والمقصود هنا التعنيف والعتاب الشديد، قال القاضي عياض: «فيه تأديب الحاكم باللسان، والسب غير المقزع نفسه»([13]).

 

 

([1])     أخرجه مسلم (2404).

([2])    «معاني الأخبار» للكلاباذي (384)، قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن يوسف النعماني، ومحمد بن محمد بن الازهر الأشوي، عن عمرو بن عثمان التمري بصري، وقال الأزهري: حدثنا وهب بن عمرو بن عثمان وهو الصواب، قال: حدثنا أبي، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس ابن أبي حازم به.

([3])    سير أعلام النبلاء (3/140)، البداية والنهاية (8/138)، بسند صحيح.

([4])    البداية والنهاية (10/557).

([5])    تاريخ دمشق (59/142)، البداية والنهاية (11/429).

([6])    صحيح البخاري (3706)، صحيح مسلم (2404).

([7])    مسند أحمد (1463).

([8])    قال البخاري: «فيه بعض النظر». التاريخ الكبير (2/115).

             وذكره العقيلي في الضعفاء (1/152)، ونقل قول البخاري.

             وقال ابن عدي: «والذي قاله البخاري هو كما قال، روى عنه أبو بكر الحنفي أحاديث لا أعرف فيها شيئًا منكرًا، وعندي أنه مستقيم الحديث». الكامل (2/42).

             وذكره الذهبي في الضعفاء وقال: «صدوق، ليَّنه ابن حبان البستي وابن حزم. وقال البخاري: فيه نظر». المغني في الضعفاء (1/115)، وذكره الذهبي فيمن تكلم فيه وهو موثق فقال: «صالح الحديث لينه ابن حبان». من تكلم فيه وهو موثق (ص: 55).

             وقال ابن حجر: «صدوق». تقريب التهذيب (1/128).

             ومسلم لم يحتج به في صحيحه، وإنما استشهد به في موضعين كما قال الحاكم، ميزان الاعتدال (1/351).

             فمن كانت هذه حاله لا يقوى على التَّفرد، فكيف وقد خالف مثل سعيد بن المسيب! فتكون روايته بذلك منكرة، والله أعلم.

([9])    أخرجه ابن ماجه (121)، قال: حدثنا علي بن محمد، قال: حدثنا أبو معاوية، قال: حدثنا موسى بن مسلم، عن ابن سابط، وهو عبد الرحمن، به.

             وأخرجه ابن أبي عاصم في السنة (2/610) قال: حدثنا أبو بكر، وأبو الربيع، قالا: حدثنا أبو معاوية، عن الشيباني، عن عبد الرحمن بن سابط، قال: قدم معاوية في بعض حجَّاته، فأتاه سعد، فقال: سمعتُ رسول الله ﷺ يقول في عليٍّ ثلاثُ خصالٍ، لأنْ يكون لي واحدة منهنَّ أحبُّ إليَّ من الدنيا وما فيها، سمعت رسول الله ﷺ يقول: «من كنتُ مولاه، وأنت مني بمنزلة هارون من موسى، ولأعطينَّ الراية». وهنا أرسله ابن سابط.

             وأخرجه النسائي في الخصائص (ص 38) قال: أخبرنا حرمي بن يونس بن محمد، قال: حدثناأبو غسان، قال: حدثنا عبد السلام، عن موسى الصغير، عن عبد الرحمن بن سابط، عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، قال كنت جالسًا فتنقصوا عليَّ بن أبي طالب، فقال: لقد سمعت رسول الله ﷺ يقول له خصال ثلاثة لأن تكون لي واحدة منهن أحب إلي من حمر النعم، سمعته يقول: «إنه مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي»، وسمعته يقول: «لأعطين الراية غدًا رجلًا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله»، وسمعته يقول: «من كنت مولاه فعلي مولاه».

             فيه أبو معاوية، ليس بحجة في غير الأعمش، قال عبد الله بن أحمد: سمعت أبي يقول:

             «أبو معاوية الضرير في غير حديث الأعمش مضطرب، لا يحفظها حفظًا جيدًا».

             وقال ابن خِراش: «صدوق، وهو في الأعمش ثقة، وفي غيره فيه اضطراب». تهذيب

             الكمال (25/132).

             وقال ابن نمير: «كان أبو معاوية لا يضبط شيئًا من حديثه ضبطه لحديث الأعمش، كان يضطرب في غيره اضطرابًا شديدًا». تاريخ بغداد (5/247).

             وقال ابن حجر: «ثقة، أحفظ الناس لحديث الأعمش، وقد يهم في حديث غيره». تقريب التهذيب (2/475).

             نعم، توبع أبو معاوية عند النسائي في الخصائص، وابن عساكر في تاريخ دمشق (42/115)، من عبد السلام، عن موسى به. ولكن عبد السلام بن حرب قال عنه الحسن بن عيسى: سمعت عبد الله بن المبارك، وسألته عن عبد السلام بن حرب الملائي؟ فقال: «قد عرفته». وكان إذا قال: قد عرفته، فقد أهلكه.

             وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل، عن أبيه: «كنا ننكر من عبد السلام شيئًا، كان لا يقول: حدثنا إلا في حديث واحد، أو حديثين، سمعته يقول فيه: حدثنا».

             وقال ابن سعد: «كان به ضعف في الحديث، وكان عسرًا».

             وقال ابن نمير: «كان يدلس». وقال الدارقطني: «ثقة حجة».

             وقال العجلي: «هو عند الكوفيين ثقة ثبت، والبغداديون يستنكرون بعض حديثه، والكوفيون أعلم به».

             وقال يعقوب بن شيبة: «ثقة، في حديثه لين».

             وقال ابن حجر: «ثقة حافظ له مناكير».

             انظر: تهذيب الكمال (18/70)، تقريب التهذيب (4065).

             قلت: رُمي بالتدليس، ولم يذكر سماعًا من موسى، فلا تثبتُ المتابعة.

             ولفظ النسائي: كنت جالسًا فتنقصوا عليًا، ولفظ ابن عساكر: كنت جالسًا عند فلان فذكروا عليا فتنقصوه. وعبد الرحمن بن سابط كثير الإرسال، ونصَّ ابن معين أن روايته عن سعد مرسلة.

([10])  أخرجه البخاري (4033).

([11])   أخرجه البخاري (3673)، ومسلم (2540)، واللفظ للبخاري.

([12])  أخرجه مسلم (706).

([13])  إكمال المعلم شرح صحيح مسلم للقاضي عياض (7/123).