المقدمة
08-03-2023
كثر الكلام حول مقتل الشهيد السعيد السيد السبط الحسين بن علي رضي الله عنه، فطلب مني بعض الإخوان أن أذكر القصة الصحيحة التي أثبتها الثقات من أهل العلم ودونوها في كتبهم، فأجبتهم ما يلي:
بلغ أهل العراق أن الحسين لم يبايع ليزيد بن معاوية، وذلك سنة (60هـ)، فأرسلوا إليه الرسل والكتب يدعونه فيها إلىٰ البيعة، وذلك أنهم لا يريدون يزيد ولا أباه ولا عثمان ولا عمر ولا أبا بكر، إنهم لا يريدون إلا علياً وأولاده، وبلغت الكتب التي وصلت إلىٰ الحسين أكثر من خمسمائة كتاب.
عند ذلك أرسل الحسين رضي الله عنه ابن عمه مسلم بن عقيل ليتقصىٰ الأمور ويتعرف علىٰ حقيقة البيعة وجليتها، فلما وصل مسلم إلىٰ الكوفة تيقن أن الناس يريدون الحسين، فبايعه الناس علىٰ بيعة الحسين، وذلك في دار هانئ بن عروة، ولما بلغ الأمر يزيد بن معاوية في الشام أرسل إلىٰ عبيد الله بن زياد ــ والي البصرة ــ ليعالج هذه القضية، ويمنع أهل الكوفة من الخروج عليه مع الحسين رضي الله عنه.
فدخل عبيد الله بن زياد إلىٰ الكوفة، وأخذ يتحرىٰ الأمر ويسأل حتىٰ علم أن دار هانئ بن عروة هي مقر مسلم بن عقيل، وفيها تتم المبايعة، فأرسل إلىٰ هانئ بن عروة وسأله عن مسلم بعد أن بيّن له أنه قد علم بكل شيء، قال هانئ بن عروة قولته المشهورة التي تدل علىٰ شجاعته وحسن جواره: «والله لو كان تحت قدمي هاتين ما رفعتها»، فضربه عبيد الله بن زياد، وأمر بحبسه.
فلما بلغ الخبر مسلم بن عقيل؛ خرج علىٰ عبيد الله بن زياد، وحاصر قصره بأربعة آلاف من مؤيديه وذلك في الظهيرة. فقام فيهم عبيد الله بن زياد وخوفهم بجيش من الشام، ورغبهم ورهبهم، فصاروا ينصرفون عنه حتىٰ لم يبق معه إلا ثلاثون رجلاً فقط، وما غابت الشمس إلا ومسلم بن عقيل وحده ليس معه أحد.
فقبض عليه وأمر عبيد الله بن زياد بقتله، فطلب منه مسلم أن يرسل رسالة إلىٰ الحسين، فأذن عبيد الله وهذا نص رسالته: «ارجع بأهلك، ولا يغرنك أهل الكوفة، فإن أهل الكوفة قد كذبوك وكذبوني، وليس لكاذب رأي».
ثم أمر عبيد الله بقتل مسلم بن عقيل، وذلك في يوم عرفة، وكان مسلم بن عقيل قد أرسل إلىٰ الحسين رضي الله عنه أن أقدم، فخرج الحسين من مكة يوم التروية، وحاول منعه كثير من الصحابة ونصحوه بعدم الخروج، مثل: ابن عباس، وابن عمر، وابن الزبير، وأبي سعيد الخدري، وابن عمرو، وأخيه محمد بن الحنفية، وغيرهم.
فهذا أبو سعيد الخدري يقول له: «يا أبا عبد الله إني لك ناصح، وإني عليك مشفق، قد بلغني أن قد كاتبكم قوم من شيعتكم بالكوفة يدعونك إلىٰ الخروج إليهم، فلا تخرج إليهم، فإني سمعت أباك يقول في الكوفة: والله قد مللتهم، وأبغضتهم، وملوني، وأبغضوني، وما يكون منهم وفاء قط، ومن فاز بهم بالسهم الأخيب، والله ما لهم من نيات، ولا عزم علىٰ أمر، ولا صبر علىٰ سيف».
وهذا ابن عمر يقول للحسين: «إني محدثك حديثاً: إن جبريل أتىٰ النبي ﷺ فخيره بين الدنيا والآخرة، فاختار الآخرة، ولم يرد الدنيا، وإنك بضعة منه، والله ما يليها أحد منكم أبداً، وما صرفها الله عنكم إلا للذي هو خير لكم»، فأبىٰ أن يرجع فاعتنقه وبكىٰ وقال: «استودعك الله من قتيل».
وجاء الحسينَ خبرُ مسلم بن عقيل عن طريق الرسول الذي أرسله مسلم، فهمّ الحسين بالرجوع، فامتنع أبناء مسلم، وقالوا: «لا ترجع حتىٰ نأخذ بثأر أبينا، فنزل الحسين علىٰ رأيهم».
وكان عبيد الله بن زياد قد أرسل كتيبة قوامها ألف رجل بقيادة الحر بن يزيد التميمي؛ ليمنع الحسين من القدوم إلىٰ الكوفة فالتقىٰ الحر مع الحسين في القادسية، وحاول منع الحسين من التقدم، فقال له الحسين: ابتعد عني ثكلتك أمك. فقال الحر: «والله لو قالها غيرك من العرب؛ لاقتصصت منه ومن أمه، ولكن ماذا أقول لك وأمك سيدة نساء العالمين رضي الله عنها».
ولما تقدم الحسين إلىٰ كربلاء وصلت بقية جيش عبيد الله بن زياد وهم أربعة آلاف بقيادة عمر بن سعد فقال الحسين: ما هذا المكان؟ فقالوا له: إنها كربلاء، فقال: «كرب وبلاء».
ولما رأىٰ الحسين هذا الجيش العظيم؛ علم أن لا طاقة له بهم، وقال: إني أخيّركم بين أمرين:
الأول: أن تدعوني أرجع.
الثاني: أن تتركوني أذهب إلىٰ يزيد في الشام.
فقال له عمر بن سعد: أرسل إلىٰ يزيد وأرسل أنا إلىٰ عبيد الله، فلم يرسل الحسين إلىٰ يزيد، وأرسل عمر إلىٰ عبيد الله، فأبىٰ إلا أن يستأسر الحسين له. ولما بلغ الحسين ما قال عبيد الله بن زياد أبىٰ أن يستأسر له، فكان القتال بين ثلاثة وسبعين مقاتلاً مقابل خمسة آلاف، وكان قد انضم إلىٰ الحسين من جيش الكوفة ثلاثون رجلاً علىٰ رأسهم الحر بن يزيد التميمي، ولما عاب عليه قومه ذلك. قال: والله إني أخير نفسي بين الجنة والنار.
لا شك أن المعركة كانت غير متكافئة من حيث العدد، فقتل أصحاب الحسين (رضي الله عنه وعنهم) كلهم بين يديه يدافعون عنه حتىٰ بقي وحده، وكان كالأسد، ولكنها الكثرة، وكان كل واحد من جيش الكوفة يتمنىٰ لو غيره كفاه قتل الحسين حتىٰ لا يُبْتلىٰ بدمه رضي الله عنه، حتىٰ قام رجل خبيث يقال له: شمر بن ذي الجوشن، فرمىٰ الحسين برمحه، فأسقطه أرضاً، فاجتمعوا عليه وقتلوه شهيداً سعيداً. ويقال: إن شمر بن ذي الجوشن هو الذي اجتز رأس الحسين، وقيل: سنان بن أنس النخعي، والله أعلم.
وأما قصة منع الماء وأنه مات عطشاً وغير ذلك من الزيادات التي إنما تذكر لدغدغة المشاعر؛ فلا يثبت منها شيء، وما ثبت يغني ــ ولا شك ــ في أنها قصة محزنة مؤلمة، وخاب وخسر من شارك في قتل الحسين ومن معه، وباء بغضب من ربه، وللشهيد السعيد ومن معه الرحمة والرضوان من الله، ومنا الدعاء والترضي.