مراجعة الشيعي عبدالحسين 110
30-03-2023
مراجعة الشيعي عبدالحسين رقم [110]
29 ربيع الثاني سنة 1330 هـ
إن أولي الألباب ليعلمون بالضرورة انقطاع الشيعة الإمامية خلفا عن سلف في أصول الدين وفروعه إلىٰ العترة الطاهرة، فرأيهم تبع لرأي الأئمة من العترة في الفروع والأصول وسائر ما يؤخذ من الكتاب والسنة أو يتعلق بهما من جميع العلوم لا يعولون في شيء من ذلك إلا عليهم، ولا يرجعون فيه إلا إليهم.
فهم يدينون الله تعالىٰ، ويتقربون إليه سبحانه بمذهب أئمة أهل البيت، لا يجدون عنه حولا ولا يرتضون بدلا، علىٰ ذلك مضىٰ سلفهم الصالح من عهد أمير المؤمنين والحسن والحسين والأئمة التسعة من ذرية الحسين (ع) إلىٰ زماننا هذا، وقد أخذ الفروع والأصول عن كل واحد منهم جم من ثقات الشيعة وحفاظهم وافر، وعدد من أهل الورع والضبط والإتقان يربو علىٰ التواتر، فرووا ذلك لمن بعدهم علىٰ سبيل التواتر القطعي، ومن بعدهم رواه لمن بعده علىٰ هذا السبيل.
وهكذا كان الأمر في كل خلف وجيل، إلىٰ أن انتهىٰ إلينا كالشمس الضاحية ليس دونها حجاب، فنحن الآن في الفروع والأصول علىٰ ما كان عليه الأئمة من آل الرسول، روينا بقضنا وقضيضنا مذهبهم عن جميع آبائنا، وروىٰ جميع آبائنا ذلك عن جميع آبائهم، وهكذا كانت الحال، في جميع الأجيال، إلىٰ زمن النقيين العسكرين، والرضايين الجوادين، والكاظمين الصادقين، والعابدين الباقرين، والسبطين الشهيدين، وأمير المؤمنين (ع)، فلا نحيط الآن بمن صحب أئمة أهل البيت من سلف الشيعة، فسمع أحكام الدين منهم، وحمل علوم الإسلام عنهم، وإن الوسع ليضيق عن استقصائهم وعدهم.
وحسبك ما خرج من أقلام أعلامهم، من المؤلفات الممتعة، التي لا يمكن استيفاء عدها في هذا الإملاء، وقد اقتبسوها من نور أئمة الهدىٰ من آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم، واغترفوها من بحورهم، سمعوها من أفواههم، وأخذوها من شفاههم، فهي ديوان علمهم، وعنوان حكمهم، ألفت علىٰ عهدهم فكانت مرجع الشيعة من بعدهم، وبها ظهر امتياز مذهب أهل البيت علىٰ غيره من مذاهب المسلمين، فإنا لا نعرف أن أحداً من مقلدي الأئمة الأربعة مثلاً، ألف علىٰ عهدهم كتاباً في أحد مذاهبهم، وإنما ألف الناس علىٰ مذاهبهم، فأكثروا بعد انقضاء زمنهم وذلك حيث تقرر حصر التقليد فيهم، وقصر الإمامة في الفروع عليهم، وكانوا أيام حياتهم كسائر من عاصرهم من الفقهاء والمحدثين، لم يكن لهم امتياز علىٰ من كان في طبقتهم.
ولذلك لم يكن علىٰ عهدهم من يهتم بتدوين أقوالهم، اهتمام الشيعة بتدوين أقوال أئمتها المعصومين ــ علىٰ رأيها ــ، فإن الشيعة من أول نشأتها، لا تبيح الرجوع في الدين إلىٰ غير أئمتها، ولذلك عكفت هذا العكوف عليهم، وانقطعت في أخذ معالم الدين إليهم، وقد بذلت الوسع والطاقة في تدوين كل ما شافهوها به، واستفرغت الهمم والعزائم في ذلك بما لا مزيد عليه، حفظا للعلم الذي لا يصح ــ علىٰ رأيها ــ عند الله سواه، وحسبك ــ مما كتبوه أيام الصادق ــ تلك الأصول الأربعمئة، وهي أربعمائة مصنف لأربعمئة مصنف، كتبت من فتاوىٰ الصادق علىٰ عهده، ولأصحاب الصادق غيرها هو أضعاف أضعافها، كما ستسمع تفصيله قريبا إن شاء الله تعالىٰ.
أما الأئمة الأربعة فليس لهم عند أحد من الناس منزلة أئمة أهل البيت عند شيعتهم، بل لم يكونوا أيام حياتهم بالمنزلة التي تبوأوها بعد وفاتهم، كما صرح به ابن خلدون المغربي، في الفصل الذي عقده لعلم الفقه من مقدمته الشهيرة، واعترف به غير واحد من أعلامهم، ونحن مع ذلك لا نرتاب في أن مذاهبهم إنما هي مذاهب أتباعهم، التي عليها مدار عملهم في كل جيل، وقد دونوها في كتبهم، لأن أتباعهم أعرف بمذاهبهم، كما أن الشيعة أعرف بمذهب أئمتهم، الذي يدينون الله بالعمل علىٰ مقتضاه، ولا تتحقق منهم نية القربة إلىٰ الله بسواه.
وإن الباحثين ليعلمون بالبداهة تقدم الشيعة في تدوين العلوم علىٰ من سواهم إذ لم يتصد لذلك في العصر الأول غير علي وأولو العلم من شيعته، ولعل السر في ذلك اختلاف الصحابة في إباحة كتابة العلم وعدمها، فكرهها ــ كما عن العسقلاني في مقدمة «فتح الباري» وغيره ــ عمر بن الخطاب وجماعة آخرون، خشية أن يختلط الحديث في الكتاب، وأباحه علي وخلفه الحسن السبط المجتبىٰ وجماعة من الصحابة، وبقي الأمر علىٰ هذه الحال حتىٰ أجمع أهل القرن الثاني في آخر عصر التابعين علىٰ إباحته، وحينئذ ألف ابن جريج كتابه في الآثار عن مجاهد وعطاء بمكة، وعن الغزالي أنه أول كتاب صنف في الإسلام، والصواب أنه أول كتاب صنفه غير الشيعة من المسلمين وبعده كتاب معمر بن راشد الصنعاني باليمن ثم «موطأ» مالك، وعن مقدمة «فتح الباري» أن الربيع بن صبيح أول من جمع، وكان في آخر عصر التابعين، وعلىٰ كل فالإجماع منعقد علىٰ أنه ليس لهم في العصر الأول تأليف.
أما علي وشيعته، فقد تصدوا لذلك في العصر الأول، وأول شيء دونه أمير المؤمنين: كتاب الله عز وجل، فإنه (ع) بعد فراغه من تجهيز النبي صلى الله عليه وآله وسلم، آلىٰ علىٰ نفسه أن لا يرتدي إلا للصلاة، أن يجمع القرآن، فجمعه مرتبا علىٰ حسب النزول، وأشار إلىٰ عامه وخاصه، ومطلقه ومقيده، ومحكمه ومتشابهه، وناسخه ومنسوخه، وعزائمه ورخصه، وسننه وآدابه، ونبه علىٰ أسباب النزول في آياته البينات، وأوضح ما عساه يشكل من بعض الجهات، وكان ابن سيرين يقول: لو أصبت ذلك الكتاب كان فيه العلم.
وقد عني غير واحد من قراء الصحابة بجمع القرآن، غير أنه لم يتسن لهم أن يجمعوه علىٰ تنزيله، ولم يودعوه شيئاً من الرموز التي سمعتها، فإذن كان جمعه (ع) بالتفسير أشبه. وبعد فراغه من الكتاب العزيز ألف لسيدة نساء العالمين كتاباً كان يعرف عند ابنائها الطاهرين بمصحف فاطمة يتضمن أمثالا وحكما، ومواعظ وعبرا، واخبارا ونوادر توجب لها العزاء عن سيد الأنبياء أبيها صلى الله عليه وآله وسلم.
وألف بعده كتاباً في الديات وسمه «بالصحيفة»، وقد أورده ابن سعد في آخر كتابه المعروف «بالجامع» مسندا إلىٰ أمير المؤمنين (ع).
ورأيت البخاري ومسلما يذكران هذه الصحيفة ويرويان عنها في عدة مواضع من «صحيحيهما»، ومما روياه عنها ما أخرجاه عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه، قال: قال علي ؟ا ما عندنا كتاب نقرؤه إلا كتاب الله غير هذه الصحيفة. قال: فأخرجها فإذا فيها أشياء من الجراحات وأسنان الإبل. قال: وفيها: «المدينة حرم ما بين عير إلىٰ ثور، فمن أحدث فيها حدثا أو آوىٰ محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين» الحديث بلفظ البخاري في باب: «إثم من تبرأ من مواليه» من كتاب «الفرائض» في الجزء الرابع من «صحيحه»، وهو موجود في باب فضل المدينة من كتاب «الحج» من الجزء الأول من «صحيح مسلم».
والإمام أحمد بن حنبل أكثر من الرواية عن هذه الصحيفة في «مسنده»، ومما رواه عنها ما أخرجه من حديث علي في صفحة 100 من الجزء الأول من «مسنده» عن طارق بن شهاب، قال: شهدت علياً ؟ا، وهو يقول علىٰ المنبر: «والله ما عندنا كتاب نقرؤه عليكم إلا كتاب الله تعالىٰ، وهذه الصحيفة، وكانت معلقة بسيفه أخذتها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم..» الحديث.
وقد جاء في رواية الصفار عن عبدالملك قال دعا أبو جعفر بكتاب علي، فجاء به جعفر مثل فخذ الرجل مطويا، فإذا فيه: إن النساء ليس لهن من عقار الرجل إذا توفي عنهن شيء. فقال أبو جعفر: هذا والله خط علي وإملاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
واقتدىٰ بأمير المؤمنين ثلة من شيعته فألفوا علىٰ عهده، منهم: سلمان الفارسي، وأبو ذر الغفاري، فيما ذكره ابن شهر آشوب، حيث قال: «أول من صنف في الإسلام علي بن أبي طالب، ثم سلمان الفارسي، ثم أبوذر». اهـ
ومنهم أبو رافع مولىٰ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصاحب بيت مال أمير المؤمنين (ع)، وكان من خاصة أوليائه والمستبصرين بشأنه، له كتاب «السنن والأحكام والقضايا» جمعه من حديث علي خاصة، فكان عند سلفنا في الغاية القصوىٰ من التعظيم، وقد رووه بطرقهم وأسانيدهم إليه.
ومنهم علي بن أبي رافع ــ وقد ولد كما في ترجمته من «الإصابة» علىٰ عهد النبي فسماه علياً ــ له كتاب في فنون الفقه علىٰ مذهب أهل البيت، وكانوا ؟م يعظمون هذا الكتاب، ويرجعون شيعتهم إليه، قال موسىٰ بن عبد الله بن الحسن: سأل أبي رجل عن التشهد، فقال أبي: هات كتاب ابن أبي رافع. فأخرجه وأملاه علينا. اهـ. واستظهر صاحب «روضات الجنات» أنه أول كتاب فقهي صنف في الشيعة، وقد اشتبه في ذلك رحمه الله، ومنهم عبيد الله ابن أبي رافع كاتب علي ووليه، سمع النبي وروىٰ عنه صلى الله عليه وآله وسلم قوله لجعفر: «أشبهت خلقي وخلقي». أخرج ذلك عنه جماعة منهم أحمد بن حنبل في «مسنده»، وذكره ابن حجر في القسم الأول من «إصابته» بعنوان عبيد الله بن أسلم، لأن أباه أبا رافع اسمه أسلم، ألف عبيد الله هذا كتاباً فيمن حضر صفين مع علي من الصحابة، رأيت ابن حجر ينقل عنه كثيراً في «إصابته».
ومنهم ربيعة بن سميع، له كتاب في زكاة النعم من حديث علي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ومنهم عبد الله بن الحر الفارسي له لمعة في الحديث جمعها عن علي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ومنهم الأصبغ بن نباتة صاحب أمير المؤمنين وكان من المنقطعين إليه، روىٰ عنه عهده إلىٰ الأشتر، ووصيته إلىٰ ابنه محمد، ورواهما أصحابنا بأسانيدهم الصحيحة إليه.
ومنهم سليم بن قيس الهلالي صاحب علي (ع) روىٰ عنه وعن سلمان الفارسي، له كتاب في الإمامة ذكره الإمام محمد بن إبراهيم النعماني في «الغنية»، فقال: وليس بين جميع الشيعة ممن حمل العلم أو رواه عن الأئمة خلاف في أن كتاب سليم بن قيس الهلالي أصل من كتب الأصول التي رواها أهل العلم وحملة حديث أهل البيت وأقدمها، وهو من الأصول التي ترجع الشيعة إليها وتعول عليها. اهـ.
وقد تصدىٰ أصحابنا لذكر من ألف من أهل تلك الطبقة من سلفهم الصالح، فليراجع فهارسهم وتراجم رجالهم من شاء.
وأما مؤلفو سلفنا من أهل الطبقة الثانية ــ طبقة التابعين ــ فإن مراجعاتنا هذه لتضيق عن بيانهم. والمرجع في معرفتهم ومعرفة مصنفاتهم وأسانيدها إليهم علىٰ التفصيل إنما هو فهارس علمائنا ومؤلفاتهم في تراجم الرجال، سطع ــ أيام تلك الطبقة ــ نور أهل البيت، وكان قبلها محجوبا بسحائب ظلم الظالمين، لأن فاجعة الطف فضحت أعداء آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وأسقطتهم من أنظار أولي الألباب، ولفتت وجوه الباحثين إلىٰ مصائب أهل البيت، منذ فقدوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، واضطرت الناس بقوارعها الفادحة إلىٰ البحث عن أساسها، وحملتهم علىٰ التنقيب عن أسبابها، فعرفوا جذرتها وبذرتها، وبذلك نهض أولوا الحمية من المسلمين إلىٰ حفظ مقام أهل البيت والانتصار لهم، لأن الطبيعة البشرية تنتصر بجبلتها للمظلوم، وتنفر من الظالم، وكأن المسلمين بعد تلك الفاجعة دخلوا في دور جديد، فاندفعوا إلىٰ موالاة الإمام علي بن الحسين زين العابدين، وانقطعوا إليه في فروع الدين وأصوله، وفي كل ما يؤخذ من الكتاب والسنة من سائر الفنون الإسلامية، وفزعوا من بعده إلىٰ ابنه الإمام أبي جعفر الباقر (ع)، وكان أصحاب هذين الإمامين «العابدين الباقرين» من سلف الإمامية ألوفا مؤلفة لا يمكن إحصاؤهم، لكن الذين دونت أسماؤهم وأحوالهم في كتب التراجم من حملة العلم عنهما يقاربون أربعة آلاف بطل، ومصنفاتهم تقارب عشرة آلاف كتاب أو تزيد، رواها أصحابنا في كل خلف عنهم بالأسانيد الصحيحة، وفاز جماعة من أعلام أولئك الأبطال بخدمتهما وخدمة بقيتهما الإمام الصادق ؟م، وكان الحظ الأوفر لجماعة منهم فازوا بالقدح المعلىٰ علما وعملا. فمنهم:
ــ أبو سعيد أبان بن تغلب بن رباح الجريري القارئ الفقيه المحدث المفسر الأصولي اللغوي المشهور، كان من أوثق الناس، لقي الأئمة الثلاثة، فروىٰ عنهم علوما جمة، وأحاديث كثيرة، وحسبك أنه روىٰ عن الصادق خاصة ثلاثين ألف حديث، كما أخرجه الميرز محمد في ترجمة أبان من كتاب «منتهىٰ المقال» بالإسناد إلىٰ أبان بن عثمان عن الصادق عليه السلام، وكان له عندهم حظوة وقدم، قال له الباقر عليه السلام ــ وهما في المدينة الطيبة ــ: اجلس في المسجد وأفت الناس، فإني أحب أن يرىٰ في شيعتي مثلك.
وقال له الصادق عليه السلام: ناظر أهل المدينة، فإني أحب أن يكون مثلك من رواتي ورجالي. وكان إذا قدم المدينة تقوضت إليه الخلق، وأخليت له سارية النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقال الصادق (ع) لسليم ابن أبي حبة: ائت أبان بن تغلب فإنه سمع مني حديثاً كثيراً، فما روىٰ لك فاروه عني.
وقال عليه السلام لأبان بن عثمان: أن أبان بن تغلب روىٰ عني ثلاثين ألف حديث فاروها عنه. وكان إذا دخل أبان علىٰ الصادق يعانقه ويصافحه، ويأمر بوسادة تثنىٰ له، ويقبل عليه بكله. ولما نعي إليه قال عليه السلام: أما والله لقد أوجع قلبي موت أبان. وكانت وفاته سنة إحدىٰ وأربعين ومائة.
ولأبان روايات عن أنس بن مالك، والأعمش، ومحمد بن المنكدر، وسماك بن حرب، وإبراهيم النخعي، وفضيل بن عمرو، والحكم، وقد احتجّ به مسلم وأصحاب «السنن الأربعة» كما بيناه إذ أوردناه ــ في المراجعة 16 ــ. ولا يضره عدم احتجاج البخاري به، فإن له أسوة بأئمة أهل البيت، الصادق، والكاظم، والرضا، والجواد التقي، والحسن العسكري الزكي، إذ لم يحتج بهم، بل لم يحتج بالسبط الأكبر سيد شباب أهل الجنة، نعم احتجّ بمروان بن الحكم، وعمران بن حطان، وعكرمة البربري، وغيرهم من أمثالهم، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ولأبان مصنفات ممتعة، منها كتاب «تفسير غريب القرآن» أكثر فيه من شعر العرب شواهد علىٰ ما جاء في الكتاب الحكيم، وقد جاء فيما بعد، عبدالرحمن بن محمد الأزدي الكوفي، فجمع من كتاب أبان، ومحمد بن السائب الكلبي، وابن روق عطية بن الحارث، فجعله كتاباً واحدا بين ما اختلفوا فيه، وما اتفقوا عليه، فتارة يجئ كتاب أبان مفردا، وتراة يجئ مشتركا علىٰ ما عمله عبدالرحمن، وقد روىٰ أصحابنا كلا من الكتابين بالأسانيد المعتبرة، والطرق المختلفة، ولأبان كتاب «الفضائل»، وكتاب «صفين»، وله أصل من الأصول التي تعتمد عليها الإمامية في أحكامها الشرعية، وقد روت جميع كتبه بالإسناد إليه، والتفصيل في كتب الرجال.
ــ ومنهم أبو حمزة الثمالي ثابت بن دينار، كان من ثقات سلفنا الصالح وأعلامهم، أخذ العلم عن الأئمة الثلاثة ــ الصادق والباقر وزين العابدين ؟م ــ وكان منقطعا إليهم، مقربا عندهم، أثنىٰ عليه الصادق، فقال عليه السلام: أبو حمزة في زمانه مثل سلمان الفارسي في زمانه. وعن الرضا عليه السلام: أبو حمزة في زمانه كلقمان في زمانه. له كتاب «تفسير القرآن»، رأيت الإمام الطبرسي ينقل عنه في تفسيره ــ «مجمع البيان»، وله كتاب «النوادر»، وكتاب «الزهد»، ورسالة «الحقوق» رواها عن الإمام زين العابدين علي بن الحسين (ع)، وروىٰ عنه دعاءه في السحر، وهو أسنىٰ من الشمس والقمر، وله رواية عن أنس، والشعبي، وروىٰ عنه وكيع، وأبو نعيم، وجماعة من أهل تلك الطبقة من أصحابنا وغيرهم، كما بيناه في أحواله في المراجعة (16).
وهناك أبطال لم يدركوا الإمام زين العابدين، وإنما فازوا بخدمة الباقرين الصادقين عليهما السلام. فمنهم: أبو القاسم بريد بن معاوية العجلي، وأبو بصير الأصغر ليث ابن مراد البختري المرادي، وأبو الحسن زرارة بن أعين، وأبو جعفر محمد بن مسلم بن رباح الكوفي الطائفي الثقفي، وجماعة من أعلام الهدىٰ ومصابيح الدجىٰ، لا يسع المقام استقصاء هم. أما هؤلاء الأربعة فقد نالوا الزلفىٰ، وفازوا بالقدح المعلىٰ، والمقام الأسمىٰ، حتىٰ قال فيهم الصادق عليه السلام ــ وقد ذكرهم ــ: هؤلاء أمناء الله علىٰ حلاله وحرامه. وقال: ما أجد أحداً أحيا ذكرنا إلا زرارة وأبو بصير ليث، ومحمد بن مسلم، وبريد، ولولا هؤلاء ما كان أحد يستنبط هذا. ثم قال: هؤلاء حفاظ الدين، وأمناء أبي، علىٰ حلال الله وحرامه، وهم السابقون إلينا في الدنيا، والسابقون إلينا في الآخرة.
وقال (ع): بشر المخبتين بالجنة. ثم ذكر الأربعة. وقال ــ في كلام طويل ذكرهم فيه ــ: كان أبي ائتمنهم علىٰ حلال الله وحرامه، وكانوا عيبة علمه، وكذلك اليوم هم عندي مستودع سري، وأصحاب أبي حقا، وهم نجوم شيعتي أحياء وأمواتا، بهم يكشف الله كل بدعة، ينفون عن هذا الدين انتحال المبطلين، وتأويل الغالين. اهـ.
إلىٰ غير ذلك من كلماته الشريفة التي أثبتت لهم من الفضل والشرف والكرامة والولاية، ما لا تسع بيانه عبارة، ومع ذلك فقد رماهم أعداء أهل البيت بكل إفك مبين، كما فصلناه في كتابنا «مختصر الكلام في مؤلفي الشيعة من صدر الإسلام»، وليس ذلك بقادح في سمو مقامهم، وعظيم خطرهم عند الله ورسوله والمؤمنين، كما أن حسدة الأنبياء ما زادوا أنبياء الله إلا رفعة، ولا أثروا في شرائعهم إلا انتشارا عند أهل الحق، وقبولا في نفوس أولي الألباب.
وقد انتشر العلم في أيام الصادق عليه السلام بما لا مزيد عليه، وهرع إليه شيعة آبائه (ع) من كل فج عميق، فأقبل عليهم بانبساطه، واسترسل إليهم بأنسه، ولم يأل جهدا في تثقيفهم، ولم يدخر وسعا في إيقافهم علىٰ أسرار العلوم، ودقائق الحكمة، وحقائق الأمور، كما اعترف به أبو الفتح الشهرستاني في كتابه «الملل والنحل»، حيث ذكر الصادق (ع) فقال: وهو ذو علم غزير في الدين، وأدب كامل في الحكمة، وزهد بالغ في الدنيا، وورع تام عن الشهوات. قال: وقد أقام بالمدينة مدة يفيد الشيعة المنتمين إليه، ويفيض علىٰ الموالين له أسرار العلوم، ثم دخل العراق وأقام بها مدة ما تعرض للإمامة ــ أي للسلطنة ــ قط، ولا نازع أحداً في الخلافة.
(قال): ومن غرق في بحر المعرفة لم يطمع في شط، ومن تعلىٰ إلىٰ ذروة الحقيقة لم يخف من حط، إلىٰ آخر كلامه. والحق ينطق منصفا وعنيداً.
نبغ من أصحاب الصادق جم غفير، وعدد كثير، كانوا أئمة هدىٰ، ومصابيح دجىٰ، وبحار علم، ونجوم هداية. والذين دونت أسماؤهم وأحوالهم في كتب التراجم منهم أربعة آلاف رجل من العراق والحجاز وفارس وسوريا، وهم أولو مصنفات مشهورة لدىٰ علماء الإمامية، ومن جملتها الأصول الأربعمئة وهي ــ كما ذكرناه سابقا ــ أربعمئة مصنف لأربعمئة مصنف كتبت من فتاوىٰ الصادق (ع) علىٰ عهده، فكان عليها مدار العلم والعمل من بعده، حتىٰ لخصها جماعة من أعلام الأمة، وسفراء الأئمة في كتب خاصة، تسهيلا للطالب، وتقريباً علىٰ المتناول، وأحسن ما جمع منها الكتب الأربعة التي هي مرجع الإمامية في أصولهم وفروعهم من الصدر الأول إلىٰ هذا الزمان، وهي: «الكافي»، و«التهذيب»، و«الاستبصار»، و«من لا يحضره الفقيه»، وهي متواترة ومضامينها مقطوع بصحتها، و«الكافي» أقدمها وأعظمها وأحسنها وأتقنها، وفيه ستة عشر ألف ومئة وتسعة وتسعون حديثاً، وهي أكثر مما اشتملت عليه «الصحاح الستة» بأجمعها، كما صرح به الشهيد في «الذكرىٰ» وغير واحد من الأعلام.
وألف هشام بن الحكم من أصحاب الصادق والكاظم (ع) كتبا كثيرة، اشتهر منها تسعة وعشرون كتاباً، رواها أصحابنا بأسانيدهم إليه، وتفصيلها في كتابنا ــ «مختصر الكلام في مؤلفي الشيعة من صدر الإسلام» ــ وهي كتب ممتعة باهرة في وضوح بيانها، وسطوع برهانها، في الأصول والفروع، وفي التوحيد والفلسفة العقلية، والرد علىٰ كل من الزنادقة، والملاحدة، والطبيعيين، والقدرية، والجبرية، والغلاة في علي وأهل البيت، وفي الرد علىٰ الخوارج والناصبة، ومنكري الوصية إلىٰ علي ومؤخريه ومحاربيه، والقائلين بجواز تقديم المفضول وغير ذلك.
وكان هشام من أعلم أهل القرن الثاني في علم الكلام، والحكمة الإلهية، وسائر العلوم العقلية والنقلية، مبرزا في الفقه والحديث، مقدما في التفسير، وسائر العلوم والفنون، وهو ممن فتق الكلام في الإمامة، وهذب المذهب بالنظر، يروي عن الصادق والكاظم، وله عندهم جاه لا يحيط به الوصف، وقد فاز منهم بثناء يسمو به في الملأ الأعلىٰ قدره وكان في مبدأ أمره من الجهمية، ثم لقي الصادق فاستبصر بهديه ولحق به، ثم بالكاظم ففاق جميع أصحابهما، ورماه بالتجسيم وغيره من الطامات مريدو إطفاء نور الله من مشكاته، حسدا لأهل البيت وعدوانا، ونحن أعرف الناس بمذهبه، وفي أيدينا أحواله وأقواله، وله في نصرة مذهبنا من المصنفات ما أشرنا إليه، فلا يجوز أن يخفىٰ علينا من أقواله ــ وهو من سلفنا وفرطنا ــ ما ظهر لغيرنا، مع بعدهم عنه في المذهب والمشرب، علىٰ أن ما نقله الشهرستاني ــ في «الملل والنحل» من عبارة هشام ــ لا يدل علىٰ قوله بالتجسيم.
وإليك عين ما نقله، قال: وهشام بن الحكم صاحب غور في الأصول، لا يجوز أن يغفل عن إلزاماته علىٰ المعتزلة، فإن الرجل وراء ما يلزمه علىٰ الخصم، ودون ما يظهره من التشبيه، وذلك أنه ألزم العلاف، فقال: إنك تقول الباري عالم بعلم، وعلمه ذاته، فيكون عالما لا كالعالمين، فلم لا تقول: هو جسم لا كالأجسام. اهـ. ولا يخفىٰ أن هذا الكلام إن صح عنه فإنما هو بصدد المعارضة مع العلاف، وليس كل من عارض بشيء يكون معتقدا له، إذ يجوز أن يكون قصده اختبار العلاف، وسبر غوره في العلم، كما أشار الشهرستاني إليه بقوله: فإن الرجل وراء ما يلزمه علىٰ الخصم، ودون ما يظهر من التشبيه.
علىٰ أنه لو فرض ثبوت ما يدل علىٰ التجسيم عن هشام، فإنما يمكن ذلك عليه قبل استبصاره، إذ عرفت أنه كان ممن يرىٰ رأي الجهمية، ثم استبصر بهدي آل محمد، فكان من أعلام المختصين بأئمتهم، لم يعثر أحد من سلفنا علىٰ شيء مما نسبه الخصم إليه، كما أنا لم نجد أثرا ما لشيء مما نسبوه إلىٰ كل من زرارة بن أعين، ومحمد بن مسلم، ومؤمن الطاق، وأمثالهم، مع أنا قد استفرغنا الوسع والطاقة في البحث عن ذلك، وما هو إلا البغي والعدوان، والإفك والبهتان ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ ٱلظَّالِمُونَ﴾ [إبراهيم: 42].
أما ما نقله الشهرستاني عن هشام من القول بإلهية علي، فشيء يضحك الثكلىٰ، وهشام أجل من أن تنسب إليه هذه الخرافة والسخافة، وهذا كلام هشام في التوحيد ينادي بتقديس الله عن الحلول، وعلوه عما يقوله الجاهلون، وذاك كلامه في الإمامة والوصية يعلن بتفضيل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علىٰ علي، مصرحاً بأن علياً من جملة أمته ورعيته، وأنه وصيه وخليفته، وأنه من عباد الله المظلومين المقهورين، العاجزين عن حفظ حقوقهم، المضطرين إلىٰ أن يضرعوا لخصومهم، الخائفين المترقبين الذين لا ناصر لهم ولا معين وكيف يشهد الشهرستاني لهشام بأنه صاحب غور في الأصول، وأنه لا يجوز أن يغفل عن إلزاماته علىٰ المعتزلة، وأنه دون ما أظهره للعلاف من قوله له: فلم لا تقول أن الله جسم لا كالأجسام.
ثم ينسب إليه القول بأن علياً (ع) هو الله تعالىٰ، أليس هذا تناقضا واضحا؟ وهل يليق بمثل هشام علىٰ غزارة فضله أن تنسب إليه الخرافات؟ كلا. لكن القوم أبوا إلا الإرجاف حسدا وظلما لأهل البيت ومن يرىٰ رأيهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وقد كثر التأليف علىٰ عهد الكاظم، والرضا، والجواد، والهادي، والحسن الزكي العسكري، ؟م، بما لا مزيد عليه، وانتشرت الرواة عنهم وعن رجال الأئمة من آبائهم في الأمصار، وحسروا للعلم عن ساعد الاجتهاد، وشمروا عن ساق الكد والجد، فخاضوا عباب العلوم، وغاصوا علىٰ أسرارها، وأحصوا مسائلها، ومحصوا حقائقها، فلم يألوا في تدوين الفنون جهدا، ولم يدخروا في جمع أشتات «المعارف» وسعا.
قال المحقق في «المعتبر» أعلىٰ الله مقامه: وكان من تلامذة الجواد عليه السلام فضلاء كالحسين بن سعيد، وأخيه الحسن، وأحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي، وأحمد بن محمد بن خالد البرقي، وشاذان، وأبي الفضل العمي، وأيوب بن نوح، وأحمد بن محمد بن عيسىٰ، وغيرهم ممن يطول تعدادهم (قال أعلىٰ الله مقامه): وكتبهم إلىٰ الآن منقولة بين الأصحاب دالة علىٰ العلم الغزير. اهـ
قلت: وحسبك أن كتب البرقي تربو علىٰ مئة كتاب، وللبزنطي الكتاب الكبير المعروف «بجامع البزنطي»، وللحسين بن سعيد ثلاثون كتاباً.
ولا يمكن في هذا الإملاء إحصاء ما ألفه تلامذة الأئمة الستة من أبناء الصادق ؟م، بيد أني أحيلك علىٰ كتب التراجم والفهارس، فراجع منها أحوال محمد بن سنان، وعلي بن مهزيار، والحسن بن محبوب، والحسن بن محمد بن سماعة، وصفوان بن يحيىٰ، وعلي بن يقطين، وعلي بن فضال، وعبدالرحمن بن نجران، والفضل بن شاذان ــ فإن له مئتي كتاب ــ ومحمد بن مسعود العياشي ــ فإن كتبه تربو علىٰ المئتين ومحمد بن عمير، وأحمد بن محمد بن عيسىٰ، فإنه روىٰ عن مئة رجل من أصحاب الصادق عليه السلام ومحمد بن علي بن محبوب، وطلحة بن طلحة بن زيد، وعمار بن موسىٰ الساباطي، وعلي بن النعمان، والحسين بن عبدالله، وأحمد بن عبد الله بن مهران المعروف بابن خانة وصدقة بن المنذر القمي، وعبيد الله بن علي الحلبي، الذي عرض كتابه علىٰ الصادق عليه السلام، فصححه واستحسنه، وقال: أترىٰ لهؤلاء مثل هذا الكتاب.
وأبي عمرو الطبيب، وعبد الله بن سعيد، الذي عرض كتابه علىٰ أبي الحسن الرضا عليه السلام، ويونس بن عبدالرحمن الذي عرض كتابه علىٰ الإمام أبي محمد الحسن الزكي العسكري عليه السلام.
ومن تتبع أحوال السلف من شيعة آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم، واستقصىٰ أصحاب كل من الأئمة التسعة من ذرية الحسين، وأحصىٰ مؤلفاتهم المدونة علىٰ عهد أئمتهم، واستقرأ الذين رووا عنهم تلك المؤلفات، وحملوا عنهم حديث آل محمد في فروع الدين وأصوله من ألوف الرجال، ثم ألم بحملة هذه العلوم في كل طبقة طبقة، يدا عن يد من عصر التسعة المعصومين إلىٰ عصرنا هذا، يحصل له القطع الثابت بتواتر مذهب الأئمة، ولا يرتاب في أن جميع ما ندين الله به من فروع وأصول، إنما هو مأخوذ من آل الرسول، لا يرتاب في ذلك إلا مكابر عنيد، أو جاهل بليد، والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله والسلام. «ش».