مراجعة الشيعي عبدالحسين رقم [88]

11 ربيع الأول سنة 1330 هـ

إن من كان عنده فصل الخطاب، لحقيق بأن يصدع بالحق وينطق بالصواب، وقد بقي بعض الوجوه في رد تلك الأعذار، فأحببت عرضه عليكم، ليكون الحكم فيه موكولا إليكم.

قالوا في الجواب الأول: لعله صلى الله عليه وآله وسلم حين أمرهم بإحضار الدواة لم يكن قاصدا لكتابة شيء من الأشياء، وإنما أراد مجرد اختبارهم لا غير، فنقول ــ مضافا إلىٰ ما أفدتم ــ: إن هذه الواقعة إنما كانت حال احتضاره بأبي وأمي كما هو صريح الحديث، فالوقت لم يكن وقت اختبار، وإنما كان وقت إعذار وإنذار، ووصية بكل مهمة، ونصح تام للأمة، والمحتضر بعيد عن الهزل والمفاكهة، مشغول بنفسه وبمهماته ومهمات ذويه ولا سيما إذا كان نبيا.

وإذا كانت صحته مدة حياته كلها لم تسع اختبارهم، فكيف يسعها وقت احتضاره، علىٰ أن قوله صلى الله عليه وآله وسلم ــ حين أكثروا اللغو واللغط والاختلاف عنده ــ: «قوموا»، ظاهر في استيائه منهم، ولو كان الممانعون مصيبين لاستحسن ممانعتهم، وأظهر الارتياح إليها، ومن ألم بأطراف هذا الحديث ولا سيما قولهم: هجر رسول الله .

يقطع بأنهم كانوا عالمين أنه إنما يريد أمرا يكرهونه، ولذا فاجأوه بتلك الكلمة، وأكثروا عنده اللغو واللغط والاختلاف كما لا يخفىٰ، وبكاء ابن عباس بعد ذلك لهذه الحادثة، وعدها رزية دليل علىٰ بطلان هذا الجواب.

قال المعتذرون: إن عمر كان موفقا للصواب في إدراك المصالح، وكان صاحب إلهام من الله تعالىٰ، وهذا مما لا يصغىٰ إليه في مقامنا هذا، لأنه يرمي إلىٰ أن الصواب في هذه الواقعة إنما كان في جانبه لا في جانب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأن إلهامه يومئذ كان أصدق من الوحي الذي نطق عنه الصادق الأمين صلى الله عليه وآله وسلم.

وقالوا: بأنه أراد التخفيف عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إشفاقا عليه من التعب الذي يلحقه بسبب إملاء الكتاب في حال المرض، وأنت ــ نصر الله بك الحق ــ تعلم بأن في كتابة ذلك الكتاب راحة قلب النبي، وبرد فؤاده، وقرة عينه، وأمنه علىٰ أمته صلى الله عليه وآله وسلم من الضلال. علىٰ أن الأمر المطاع، والإرادة المقدسة، مع وجوده الشريف إنما هما له، وقد أراد ــ بأبي وأمي ــ إحضار الدواة والبياض، وأمر به فليس لأحد أن يرد أمره أو يخالف إرادته: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا﴾  [الأحزاب: 36].

علىٰ أن مخالفتهم لأمره في تلك المهمة العظيمة، ولغوهم ولغطهم واختلافهم عنده، كان أثقل عليه وأشق من إملاء ذلك الكتاب الذي يحفظ أمته من الضلال، ومن يشفق عليه من التعب بإملاء الكتاب كيف يعارضه ويفاجئه بقوله: هجر؟!

وقالوا: إن عمر رأىٰ أن ترك إحضار الدواة والورق أولىٰ، وهذا من أغرب الغرائب، وأعجب العجائب، وكيف يكون ترك إحضارهما أولىٰ مع أمر النبي بإحضارهما، وهل كان عمر يرىٰ أن رسول الله يأمر بالشيء الذي يكون تركه أولىٰ؟

وأغرب من هذا قولهم: وربما خشي أن يكتب النبي أمورا يعجز عنها الناس فيستحقون العقوبة بتركها، وكيف يخشىٰ من ذلك مع قول النبي: «لا تضلوا بعده»، أتراهم يرون عمر أعرف منه بالعواقب، وأحوط منه وأشفق علىٰ أمته؟ كلا.

وقالوا: لعل عمر خاف من المنافقين أن يقدحوا في صحة ذلك الكتاب، لكونه في حال المرض فيصير سببا للفتنة، وأنت ــ نصر الله بك الحق ــ تعلم أن هذا محال مع وجود قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا تضلوا»، لأنه نص بأن ذلك الكتاب سبب للأمن عليهم من الضلال، فكيف يمكن أن يكون سببا للفتنة بقدح المنافقين؟ وإذا كان خائفا من المنافقين أن يقدحوا في صحة ذلك الكتاب، فلماذا بذر لهم بذرة القدح حيث عارض ومانع، وقال هجر.

وأما قولهم في تفسير قوله: حسبنا كتاب الله أنه تعالىٰ قال: ﴿ مَا فَرَّطْنَا فِي ٱلْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾  [الأنعَام: 38]. وقال عز من قائل: ﴿ ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾  [المَائدة: 3]، فغير صحيح، لأن الآيتين لا تفيدان الأمن من الضلال، ولا تضمنان الهداية للناس، فكيف يجوز ترك السعي في ذلك الكتاب اعتمادا عليهما؟ ولو كان وجود القرآن العزيز موجبا للأمن من الضلال، لما وقع في هذه الأمة من الضلال والتفرق، ما لا يرجىٰ زواله.

وقالوا في الجواب الأخير: إن عمر لم يفهم من الحديث أن ذلك الكتاب سيكون سببا لحفظ كل فرد من أمته من الضلال، وإنما فهم أنه سيكون سببا لعدم اجتماعهم ــ بعد كتابته ــ علىٰ الضلال (قالوا): وقد علم ؟ا أن اجتماعهم علىٰ الضلال مما لا يكون أبدا، كتب ذلك الكتاب أو لم يكتب، ولهذا عارض يومئذ تلك المعارضة. وفيه مضافا إلىٰ ما أشرتم إليه: أن عمر لم يكن بهذا المقدار من البعد عن الفهم، وما كان ليخفىٰ عليه من هذا الحديث ما ظهر لجميع الناس، لأن القروي والبدوي إنما فهما منه أن ذلك الكتاب لو كتب لكان علة تامة في حفظ كل فرد من الضلال، وهذا المعنىٰ هو المتبادر من الحديث إلىٰ أفهام الناس، وعمر كان يعلم يقينا أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن خائفا علىٰ أمته أن تجتمع علىٰ الضلال، لأنه ؟ا، كان يسمع قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا تجتمع أمتي علىٰ ضلال، ولا تجتمع علىٰ الخطأ»، وقوله: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين علىٰ الحق..» الحديث، وقوله تعالىٰ: ﴿ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا ٱلصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي ٱلْأَرْضِ كَمَا ٱسْتَخْلَفَ ٱلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ٱلَّذِي ٱرْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا﴾  [النُّور: 55].

إلىٰ كثير من نصوص الكتاب والسنة الصريحين بأن الأمة لا تجتمع بأسرها علىٰ الضلال، فلا يعقل مع هذا أن يسنح في خواطر عمر أو غيره أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين طلب الدواة والبياض، كان خائفا من اجتماع أمته علىٰ الضلال، والذي يليق بعمر أن يفهم من الحديث ما يتبادر منه إلىٰ الأذهان، لا ما تنفيه صحاح السنّة ومحكمات القرآن.

علىٰ أن استياء النبي صلى الله عليه وآله وسلم منهم، المستفاد من قوله: «قوموا»، دليل علىٰ أن الذي تركوه كان من الواجب عليهم، ولو كانت معارضة عمر عن اشتباه منه في فهم الحديث كما زعموا لأزال النبي شبهته وأبان له مراده منه، بل لو كان في وسع النبي أن يقنعهم بما أمرهم به، لما آثر إخراجهم عنه، وبكاء ابن عباس وجزعه من أكبر الأدلة علىٰ ما نقوله.

والإنصاف، أن هذه الرزية لمما يضيق عنها نطاق العذر، ولو كانت ــ كما ذكرتم ــ قضية في واقعة، كفرطة سبقت، وفلتة ندرت، لهان الأمر، وإن كانت بمجردها بائقة الدهر، وفاقرة الظهر، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. «ش».