المراجعة المنسوبة لشيخ الأزهر سليم البشري 87
29-03-2023
المراجعة المنسوبة لشيخ الأزهر سليم البشري رقم [87]
9 ربيع الأول 1330 هـ
لعله عليه السلام حين أمرهم بإحضار الدواة والبياض، لم يكن قاصداً لكتابة شيء من الأشياء، وإنما أراد بكلامه مجرد اختبارهم لا غير، فهدىٰ الله عمر الفاروق لذلك دون غيره من الصحابة، فمنعهم من إحضارهما.
فيجب ــ علىٰ هذا ــ عد تلك الممانعة من جملة موافقاته لربه تعالىٰ، وتكون من كراماته ؟ا، هكذا أجاب بعض الأعلام، لكن الإنصاف أن قوله عليه السلام: «لا تضلوا بعده» يأبىٰ ذلك، لأنه جواب ثان للأمر، ولا يخفىٰ أن الأخبار بمثل هذا الخبر لمجرد الاختبار إنما هو من نوع الكذب الواضح، الذي يجب تنزيه كلام الأنبياء عنه، ولا سيما في موضع يكون ترك إحضار الدواة والبياض أولىٰ من إحضارهما، علىٰ أن في هذا الجواب نظراً من جهات أخر فلا بد هنا من اعتذار آخر، وحاصل ما يمكن أن يقال: إن الأمر لم يكن أمر عزيمة وإيجاب، حتىٰ لا تجوز مراجعته، ويصير المراجع عاصياً، بل كان أمر مشورة وكانوا يراجعونه عليه السلام في بعض تلك الأوامر ولا سيما عمر، فإنه كان يعلم من نفسه أنه موفق للصواب في إدراك المصالح، وكان صاحب الهام من الله تعالىٰ، وقد أراد التخفيف عن النبي إشفاقاً عليه من التعب الذي يلحقه بسبب إملاء الكتاب في حال المرض والوجع، وقد رأىٰ ؟ا أن ترك إحضار الدواة والبياض أولىٰ، وربما خشي أن يكتب النبي أموراً يعجز عنها الناس، فيستحقون العقوبة بسبب ذلك لأنها تكون منصوصة لا سبيل إلىٰ الاجتهاد فيها، ولعله خاف من المنافقين أن يقدحوا في صحة ذلك الكتاب لكونه في حال المرض فيصير سبباً للفتنة؛ فقال: حسبنا كتاب الله لقوله تعالىٰ: ﴿ مَا فَرَّطْنَا فِي ٱلْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: 38]، وقوله: ﴿ ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ [المائدة: 3]، وكأنه ؟ا أمن من ضلال الأمة حيث أكمل الله لها الدين وأتم عليها النعمة.
هذا جوابهم وهو كما ترىٰ، لأن قوله عليه السلام: لا تضلوا، يفيد أن الأمر أمر عزيمة وإيجاب، لأن السعي فيما يوجب الأمن من الضلال واجب مع القدرة عليه بلا ارتياب، واستياؤه منهم وقوله لهم قوموا، حين لم يمتثلوا أمره دليل آخر علىٰ أن الأمر إنما كان للإيجاب لا للمشورة، فإن قلت لو كان واجباً ما تركه النبي عليه السلام، بمجرد مخالفتهم، كما أنه لم يترك التبليغ بسبب مخالفة الكافرين، قلنا: هذا الكلام لو تم، فإنما يفيد كون كتابة ذلك الكتاب لم تكن واجبة علىٰ النبي عليه السلام، وهذا لا ينافي وجوب الإتيان بالدواة والبياض عليهم حين أمرهم النبي به، وبين لهم أن فائدته الأمن من الضلال ودوام الهداية لهم، إذ الأصل في الأمر إنما هو الوجوب علىٰ المأمور لا علىٰ الآمر، ولا سيما إذا كانت فائدته إلىٰ المأمور خاصة، والوجوب عليهم هو محل الكلام لا الوجوب عليه.
علىٰ أنه يمكن أن يكون واجباً عليه أيضاً، ثم سقط الوجوب عنه بعدم امتثالهم، وقولهم: هجر، حيث لم يبق لذلك الكتاب أثر سوىٰ الفتنة كما أفدت.
وربما اعتذر بعضهم بأن عمر ؟ا، لم يفهم من الحديث أن ذلك الكتاب سيكون سبباً لحفظ كل فرد من أفراد الأمة من الضلال، بحيث لا يضل بعده منهم أحد أصلاً، وإنما فهم من قوله: لا تضلوا، أنكم لا تجتمعون علىٰ الضلال بقضكم وقضيضكم، ولا تتسرىٰ الضلالة بعد كتابة الكتاب إلىٰ كل فرد من أفرادكم، وكان ؟ا يعلم أن اجتماعهم علىٰ الضلال مما لا يكون أبداً، وبسبب ذلك لم يجد أثراً لكتابته، وظن أن مراد النبي ليس إلا زيادة الاحتياط في الأمر لما جبل عليه من وفور الرحمة، فعارضه تلك المعارضة بناء منه علىٰ أن الأمر ليس للإيجاب، وإنما هو أمر عطفة ورأفة ليس إلا، هذا كل ما قيل في الاعتذار عن هذه البادرة، ومن أمعن النظر فيه جزم ببعده عن الصواب، لأن قوله عليه السلام: لا تضلوا، يفيد أن الأمر للإيجاب كما ذكرنا، واستياؤه منهم دليل علىٰ أنهم تركوا أمراً من الواجبات عليهم، فالأولىٰ أن يقال في الجواب: إن هذه قضية في واقعة كانت منهم علىٰ خلاف سيرتهم، كفرطة سبقت، وفلتة ندرت، ولا نعرف وجه الصحة فيها علىٰ التفصيل، والله الهادي إلىٰ سواء السبيل، والسلام عليكم.«س».