مراجعة الشيعي عبدالحسين رقم [82]

30 صفر سنة 1330 هـ

إصفاقهم علىٰ مؤازرة الصديق والنصح له في السر والعلانية شيء وصحة عقد الخلافة له بالإجماع شيء آخر، وهما غير متلازمين عقلا وشرعا، فإن لعلي والأئمة المعصومين من بنيه مذهبا في مؤازرة أهل السلطة الإسلامية معروفاً، وهو الذي ندين الله به، وأنا أذكره لك جوابا عما قلت، وحاصله أن من رأيهم أن الأمة الإسلامية لا مجد لها إلا بدولة تلم شعثها، وترأب صدعها، وتحفظ ثغورها، وتراقب أمورها، وهذه الدولة لا تقوم إلا برعايا توازرها بأنفسها وأموالها، فإن أمكن أن تكون الدولة في يد صاحبها الشرعي وهو النائب في حكمه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نيابة صحيحة ــ فهو المتعين لا غير، وإن تعذر ذلك، فاستولىٰ علىٰ سلطان المسلمين غيره، وجبت علىٰ الأمة مؤازرته في كل أمر يتوقف عليه عز الإسلام ومنعته، وحماية ثغوره وحفظ بيضته، ولا يجوز شق عصا المسلمين، وتفريق جماعتهم بمقاومته، بل يجب علىٰ الأمة أن تعامله ــ وإن كان عبدا مجدع الأطراف ــ معاملة الخلفاء بالحق فتعطيه خراج الأرض ومقاسمتها، وزكاة الأنعام وغيرها، ولها أن تأخذ منه ذلك بالبيع والشراء، وسائر أسباب الانتقال، كالصلات والهبات ونحوها، بل لا إشكال في براءة ذمة المتقبل منه بدفع القبالة إليه، كما لو دفعها إلىٰ إمام الصدق، والخليفة بالحق، هذا مذهب علي والأئمة الطاهرين من بنيه.

وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: «ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها»، قالوا: يا رسول الله كيف تأمر من أدرك منا ذلك؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: «تؤدون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم».

وكان أبو ذر الغفاري ؟ا، يقول: «إن خليلي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أوصاني أن أسمع وأطيع، وأن كان عبدا مجدع الأطراف».

قال سلمة الجعفي: «يا نبي الله أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألوننا حقهم، ويمنعوننا حقنا، فما تأمرنا؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «اسمعوا وأطيعوا، فإنما عليهم ما حملوا، وعليكم ما حملتم».

وقال صلى الله عليه وآله وسلم في حديث حذيفة بن اليمان ؟ا: «يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي، ولا يستنون بسنتي، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس»، قال حذيفة: قلت كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: «تسمع وتطيع للأمير، وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك، فاسمع وأطع».

ومثله قوله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث أم سلمة: «ستكون أمراء عليكم، فتعرفون وتنكرون فمن عرف برئ، ومن أنكر سلم» قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قالوا: «لا ما صلوا». اهـ.

والصحاح في ذلك متواترة، ولا سيما من طريق العترة الطاهرة، ولذلك صبروا وفي العين قذىٰ، وفي الحلق شجىٰ، عملا بهذه الأوامر المقدسة وغيرها مما عهده النبي صلى الله عليه وآله وسلم إليهم بالخصوص، حيث أمرهم بالصبر علىٰ الأذىٰ، والغض علىٰ القذىٰ، احتياطا علىٰ الأمة، واحتفاظا بالشوكة، فكانوا يتحرون للقائمين بأمور المسلمين وجوه النصح، وهم ــ من استئثارهم بحقهم ــ علىٰ أمر من العلم، ويتوخون لهم مناهج الرشد، وهم ــ من تبوئهم عرشهم ــ علىٰ ألم للقلب من حز الشفار، تنفيذا للعهد، ووفاء بالوعد، وقياما بالواجب شرعا وعقلا من تقديم الأهم ـ في مقام التعارض ــ علىٰ المهم، ولذا محض أمير المؤمنين كلا من الخلفاء الثلاثة نصحه، واجتهد لهم في المشورة.

ومن تتبع سيرته في أيامهم، علم أنه بعد أن يئس من حقه في الخلافة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بلا فصل، شق بنفسه طريق الموادعة، وآثر مسالمة القائمين بالأمر، فكان يرىٰ عرشه ــ المعهود به إليه ــ في قبضتهم، فلم يحاربهم عليه، ولم يدافعهم عنه احتفاظا بالأمة واحتياطا علىٰ الملة، وضنا بالدين، وإيثارا للآجلة علىٰ العاجلة، وقد مني بما لم يمن به غيره، حيث مثل علىٰ جناحيه خطبان فادحان، الخلافة بنصوصها وعهودها إلىٰ جانب، تستصرخه وتستفزه إليها بصوت يدمي الفؤاد، وأنين يفتت الأكباد، والفتن الطاغية إلىٰ جانب آخر، تنذره بانتفاض الجزيرة، وانقلاب العرب، واجتياح الإسلام، وتهدده بالمنافقين من أهل المدينة، وقد مردوا علىٰ النفاق، وبمن حولهم من الأعراب، وهم منافقون بنص الكتاب، بل هم أشد كفرا ونفاقا، وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله علىٰ رسوله وقد قويت بفقده صلى الله عليه وآله وسلم شوكتهم، إذ صار المسلمون بعده كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية، بين ذئاب عادية، ووحوش ضارية، ومسيلمة الكذاب، وطليحة بن خويلد الأفاك، وسجاح بنت الحرث الدجالة، وأصحابهم قائمون ــ في محق الإسلام وسحق المسلمين ـ علىٰ ساق، والرومان والأكاسرة وغيرهما، كانوا بالمرصاد.

إلىٰ كثير من هذه العناصر الجياشة بكل حنق من محمد وآله وأصحابه، وبكل حقد وحسيكة لكلمة الإسلام تريد أن تنقض أساسها، وتستأصل شأفتها، وأنها لنشيطة في ذلك مسرعة متعجلة، ترىٰ أن الأمر قد استتب لها، وأن الفرصة ــ بذهاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، إلىٰ الرفيق الأعلىٰ ــ قد حانت، فأرادت أن تسخر الفرصة، وتنتهز تلك الفوضىٰ قبل أن يعود الإسلام إلىٰ قوة وانتظام.

فوقف أمير المؤمنين بين هذين الخطرين، فكان من الطبيعي له أن يقدم حقه قربانا لحياة الإسلام، وإيثارا للصالح العام، فانقطاع ذلك النزاع، وارتفاع الخلاف بينه وبين أبي بكر، لم يكن إلا فرقا علىٰ بيضة الدين، وإشفاقا علىٰ حوزة المسلمين، فصبر هو وأهل بيته كافة، وسائر أوليائه من المهاجرين والأنصار، وفي العين قذىٰ، وفي الحلق شجىٰ، وكلامه مدة حياته بعد   رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صريح بذلك، والأخبار في هذا متواترة عن أئمة العترة الطاهرة.

لكن سيد الأنصار سعد بن عبادة، لم يسالم الخليفتين أبدا، ولم تجمعه معهما جماعة في عيد أو جمعة، وكان لا يفيض بإفاضتهم، ولا يرىٰ أثر الشيء من أوامرهم ونواهيهم، حتىٰ قتل غيلة بحوران علىٰ عهد الخليفة الثاني، فقالوا: قتله الجن، وله كلام يوم السقيفة، وبعده لا حاجة بنا إلىٰ ذكره.

أما أصحابه كحباب بن المنذر، وغيره من الأنصار، فإنما خضعوا عنوة، واستسلموا للقوة فهل يكون العمل بمقتضيات الخوف من السيف أو التحريق بالنار إيمانا بعقد البيعة؟ ومصداقا للإجماع المراد من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا تجتمع أمتي علىٰ الخطأ»؟ أفتونا ولكم الأجر. والسلام. «ش».