مراجعة الشيعي عبدالحسين 76
28-03-2023
مراجعة الشيعي عبدالحسين رقم [76]
19 صفر سنة 1330 هـ
ذكرتم في الجواب عن الأمر الأول أن المعروف من سيرة السيدة أنها لا تستسلم إلىٰ العاطفة، ولا تراعي في حديثها شيئاً من الأغراض، فأرجو أن تتحللوا من قيود التقليد والعاطفة، وتعيدوا النظر إلىٰ سيرتها فتبحثوا عن حالها مع من تحب ومع من تبغض، بحث إمعان وروية، فهناك العاطفة بأجلىٰ مظاهرها، ولا تنس سيرتها مع عثمان قولا وفعلا ووقائعها مع علي وفاطمة والحسن والحسين سرا وعلانية، وشؤونها مع أمهات المؤمنين بل مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإن هناك العاطفة والغرض.
[1] وحسبك مثالا لهذا ما أيدته ــ نزولاً علىٰ حكم العاطفة ــ من إفك أهل الزور إذ قالوا ــ بهتانا وعدوانا في السيدة مارية وولدها إبراهيم عليه السلام ــ ما قالوا، حتىٰ برأهما الله عز وجل من ظلمهم براءة ــ علىٰ يد أمير المؤمنين ـ محسوسة ملموسة، ﴿ وَرَدَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا﴾ [الأحزاب: 25].
وإن أردت المزيد، فاذكر نزولها علىٰ حكم العاطفة إذ قالت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إني أجد منك ريح مغافير. ليمتنع عن أكل العسل من بيت أم المؤمنين زينب رضي الله عنها، وإذا كان هذا الغرض التافه يبيح لها أن تحدث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن نفسه بمثل هذا الحديث. فمتىٰ نركن إلىٰ نفيها الوصاية إلىٰ علي عليه السلام.
[2] ولا تنس نزولها علىٰ حكم العاطفة يوم زفت أسماء بنت النعمان عروسا إلىٰ النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقالت لها: إن النبي ليعجبه من المرأة إذا دخل عليها أن تقول له: أعوذ بالله منك. وغرضها من ذلك تنفير النبي صلى الله عليه وآله وسلم من عرسه، وإسقاط هذه المؤمنة البائسة من نفسه، وكأن أم المؤمنين تستبيح مثل هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ترويجا لغرضها، حتىٰ لو كان تافها أو كان حراماً.
[3] وكلفها صلى الله عليه وآله وسلم مرة بالاطلاع علىٰ امرأة مخصوصة لتخبره عن حالها فأخبرته ــ إيثاراً لغرضها ــ بغير ما رأت.
[4] وخاصمته صلى الله عليه وآله وسلم يوماً إلىٰ أبيها ــ نزولاً علىٰ حكم العاطفة ــ فقالت له: اقصد. فلطمها أبوها حتىٰ سال الدم علىٰ ثيابها.
[5] وقالت له مرة في كلام غضبت عنده: أنت الذي تزعم أنك نبي الله؟. إلىٰ كثير من أمثال هذه الشؤون، والاستقصاء يضيق عنه هذا الإملاء، وفيما أوردناه كفاية لما أردناه.
وقلتم في الجواب عن الأمر الثاني: إن أهل السنّة لا يقولون بالحسن والقبح العقليين إلىٰ آخر كلامكم في هذا الموضوع، وأنا أربأ بكم عن هذا القول، فإنه شبيه بقول السوفسطائية الذين ينكرون الحقائق المحسوسة، لأن من الأفعال ما نعلم بحسنه، وترتب الثناء والثواب علىٰ فعله، لصفة ذاتية له قائمة به، كالإحسان والعدل من حيث هما إحسان وعدل، ومنها ما نعلم بقبحه وترتب الذم والعقاب علىٰ فعله لصفته الذاتية القائمة به، كالإساءة والجور من حيث هما إساءة وجور.
والعاقل يعلم أن ضرورة قاضية بذلك، وليس جزم العقلاء بهذا أقل من جزمهم بكون الواحد نصف الاثنين، والبداهة الأولية قاضية بالفرق بين من أحسن إليك دائماً، وبين من أساء إليك دائما، إذ يستقل العقل بحسن فعل الأول معك، واستحقاقه للثناء والثواب منك، وقبح فعل الثاني واستحقاقه للذم والقصاص، والمشكك في ذلك مكابر لعقله، ولو كان الحسن والقبح فيما ذكرناه شرعيين، لما حكم بهما منكرو الشرائع كالزنادقة والدهرية، فإنهم مع إنكارهم الأديان يحكمون بحسن العدل والإحسان، ويرتبون عليهما ثناءهم وثوابهم، ولا يرتابون في قبح الظلم والعدوان، ولا في ترتيب الذم والقصاص علىٰ فعلهما، ومستندهم في هذا إنما هو العقل لا غير، فدع عنك قول من يكابر العقل والوجدان، وينكر ما علمه العقلاء كافة، ويحكم بخلاف ما تحكم به فطرته التي فطر عليها، فإن الله سبحانه فطر عباده علىٰ إدراك بعض الحقائق بعقولهم كما فطرهم علىٰ الإدراك بحواسهم ومشاعرهم، ففطرتهم توجب أن يدركوا بعقولهم حسن العدل ونحوه، وقبح الظلم ونحوه، كما يدركون بأذواقهم حلاوة العسل ومرارة العلقم، ويدركون بمشامهم طيب المسك ونتن الجيف، ويدركون بملامسهم لين اللين وخشونة الخشن، ويمييزون بأبصارهم بين المنظرين الحسن والقبيح، وبأسماعهم بين الصوتين: صوت المزامير وصوت الحمير، تلك فطرة الله: ﴿ ٱلَّتِي فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ ٱللَّهِ ذَلِكَ ٱلدِّينُ ٱلْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الروم: 30].
وقد أراد الأشاعرة أن يبالغوا في الإيمان بالشرع والاستسلام لحكمه، فأنكروا حكم العقل، وقالوا: لا حكم إلا للشرع، ذهولا منهم عن القاعدة العقلية المطردة ــ وهي كل ما حكم به العقل حكم به الشرع ــ ولم يلتفتوا إلىٰ أنهم قطعوا خط الرجعة بهذا الرأي علىٰ أنفسهم، فلا يقوم لهم بعده علىٰ ثبوت الشرع دليل، لأن الاستدلال علىٰ ذلك بالأدلة الشرعية دوري لا تتم به حجة، ولولا سلطان العقل لكان الاحتجاج بالنقل مصادرة، بل لولا العقل ما عبد الله عابد، ولا عرفه من خلقه كلهم واحد، وتفصيل الكلام في هذا المقام موكول إلىٰ مظانه من مؤلفات علمائنا الأعلام.
أما دعوىٰ أم المؤمنين بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قضىٰ وهو في صدرها، فمعارضة بصحاح متواترة من طريق العترة الطاهرة، وحسبك من طريق غيرهم:
[6] ما أخرجه ابن سعد بالإسناد إلىٰ علي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مرضه: «ادعوا لي أخي»، فأتيته، فقال: «ادن مني»، فدنوت منه، فاستند إلي فلم يزل مستندا إلي، وإنه ليكلمني حتىٰ أن بعض ريقه ليصيبني، ثم نزل برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم».
[7] وأخرج أبو نعيم في «حليته»، وأبو أحمد الفرضي في «نسخته»، وغير واحد من أصحاب «السنن»، عن علي، قال: علمني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ــ يعني حينئذ ــ ألف باب كل باب يفتح ألف باب».
[8] وكان عمر بن الخطاب إذا سئل عن شيء يتعلق ببعض هذه الشؤون، لا يقول غير: سلوا علياً. لكونه هو القائم بها، فعن جابر بن عبد الله الأنصاري، أن كعب الأحبار سأل عمر، فقال: ما كان آخر ما تكلم به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقال عمر: سل علياً. فسأله كعب، فقال علي: أسندت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلىٰ صدري، فوضع رأسه علىٰ منكبي، فقال: «الصلاة الصلاة». قال كعب: كذلك آخر عهد الأنبياء، وبه أمروا وعليه يبعثون، قال كعب فمن غسله يا أمير المؤمنين؟ فقال عمر: سل علياً. فسأله فقال: كنت أنا أغسله.. الحديث.
[9] وقيل لابن عباس: أرأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم توفي ورأسه في حجر أحد؟ قال: نعم توفي وإنه لمستند إلىٰ صدر علي. فقيل له: إن عروة يحدث عن عائشة أنها قالت: توفي بين سحري ونحري. فأنكر ابن عباس ذلك قائلاً للسائل: أتعقل؟ والله لتوفي رسول الله وإنه لمستند إلىٰ صدر علي، وهو الذي غسله.. الحديث
[10] وأخرج ابن سعد بسنده إلىٰ الإمام أبي محمد علي بن الحسين زين العابدين، قال: قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورأسه في حجر علي.
قلت: والأخبار في تلك متواترة عن سائر أئمة العترة الطاهرة، وأن كثيراً من المنحرفين عنهم ليعترفون بهذا، حتىٰ إن ابن سعد أخرج بسنده إلىٰ الشعبي، قال: توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورأسه في حجر علي، وغسله علي.
وكان أمير المؤمنين عليه السلام يخطب بذلك علىٰ رؤوس الأشهاد، وحسبك قوله من خطبة له عليه السلام: ولقد علم المستحفظون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أني لم أرد علىٰ الله، ولا علىٰ رسوله ساعة قط، ولقد واسيته بنفسي في المواطن التي تنكص فيها الأبطال، وتتأخر فيها الأقدام، نجدة أكرمني الله بها، ولقد قبض صلى الله عليه وآله وسلم، وإن رأسه لعلىٰ صدري، ولقد سالت نفسه في كفي، فأمررتها علىٰ وجهي، ولقد وليت غسله صلى الله عليه وآله وسلم، والملائكة أعواني.
فضجت الدار والأفنية، ملأ يهبط، وملأ يعرج، وما فارقت سمعي هينمة منهم يصلون عليه، حتىٰ واريناه في ضريحه، فمن ذا أحق به مني حياً وميتاً.
ومثله قوله من كلام له عند دفنه سيدة النساء عليهما السلام: السلام عليك يا رسول الله عني وعن ابنتك النازلة في جوارك، والسريعة اللحاق بك، قل يا رسول الله عن صفيتك صبري، ورق عنها تجلدي، إلا أن لي في التأسي بعظيم فرقتك، وفادح مصيبتك موضع تعز، فلقد وسدتك في ملحودة قبرك، وفاضت بين نحري وصدري نفسك، فإنا لله وإنا إليه راجعون.. إلىٰ آخر كلامه.
[11] وصح عن أم سلمة أنها قالت: والذي أحلف به إن كان علي لأقرب الناس عهداً برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، عدناه غداة وهو يقول: «جاء علي، جاء علي» مراراً، فقالت فاطمة: كأنك بعثته في حاجة؟ قالت: فجاء بعد، فظننت أن له إليه حاجة، فخرجنا من البيت فقعدنا عند الباب، قالت أم سلمة: وكنت من أدناهم إلىٰ الباب، فأكب عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وجعل يساره ويناجيه، ثم قبض صلى الله عليه وآله وسلم من يومه ذلك، فكان علي أقرب الناس به عهداً.
[12] وعن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال في مرضه: «ادعوا لي أخي». فجاء أبو بكر، فأعرض عنه، ثم قال: «ادعوا لي أخي». فجاء عثمان، فأعرض عنه، ثم دعي له علي، فستره بثوبه وأكب عليه، فلما خرج من عنده قيل له: ما قال لك؟ قال: علمني ألف باب كل باب يفتح له ألف باب.
وأنت تعلم أنه هو الذي يناسب حال الأنبياء، وذاك إنما يناسب أزيار النساء، ولو أن راعي غنم مات ورأسه بين سحر زوجته ونحرها، أو بين حاقنتها وذاقنتها، أو علىٰ فخذها، ولم يعهد برعاية غنمه، لكان مضيعاً مسوفاً، عفا الله عن أم المؤمنين، ليتها ــ إذ حاولت صرف هذه الفضيلة عن علي ــ نسبتها إلىٰ أبيها، فإن ذلك أولىٰ بمقام النبي مما ادعت، لكن أباها كان يومئذ ممن عبأهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيده الشريفة في جيش أسامة، وكان حينئذ معسكراً في الجرف، وعلىٰ كل حال؛ فإن القول بوفاته صلى الله عليه وآله وسلم وهو في حجرها، لم يسند إلا إليها، والقول بوفاته ــ بأبي وأمي ــ وهو في حجر علي، مسند إلىٰ كل من علي، وابن عباس، وأم سلمة، وعبد الله بن عمرو، والشعبي، وعلي بن الحسين، وسائر أئمة أهل البيت، فهو أرجح سنداً وأليق برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ولو لم يعارض حديث عائشة إلا حديث أم سلمة وحده، لكان حديث أم سلمة هو المقدم، لوجوه كثيرة غير التي ذكرناها، والسلام. «ش».