مراجعة الشيعي عبدالحسين 58
27-03-2023
مراجعة الشيعي عبدالحسين رقم [58]
27 المحرم سنة 1330 هـ
أنا أعلم بأن قلوبكم لا تطمئن بما ذكرتموه، ونفوسكم لا تركن إليه، وأنكم تقدرون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حكمته البالغة، وعصمته الواجبة، ونبوته الخاتمة، وأنه سيد الحكماء، وخاتم الأنبياء: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ ٱلْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ ٱلْقُوَى﴾ [النجم: 3-5].
فلو سألكم فلاسفة الأغيار عما كان منه يوم غدير خم، فقال: لماذا منع تلك الألوف المؤلفة يومئذ عن المسير؟ وعلام حبسهم في تلك الرمضاء بهجير؟ وفيم اهتم بإرجاع من تقدم منهم وإلحاق من تأخر؟ ولم أنزلهم جميعاً في ذلك العراء علىٰ غير كلأ ولا ماء؟ ثم خطبهم عن الله عز وجل في ذلك المكان الذي منه يتفرقون، ليبلغ الشاهد منهم الغائب، وما المقتضي لنعي نفسه إليهم في مستهل خطابه؟ إذ قال: «يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب، وإني مسؤول، وإنكم مسؤولون».
وأي أمر يسأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن تبليغه؟ وتسأل الأمة عن طاعتها فيه، ولماذا سألهم فقال: «ألستم تشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وأن جنته حق، وأن ناره حق، وأن الموت حق وأن البعث حق بعد الموت، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور». قالوا: بلىٰ نشهد بذلك؟ ولماذا أخذ حينئذ علىٰ سبيل الفور بيد علي فرفعها إليه حتىٰ بان بياض إبطيه؟ فقال: «يا أيها الناس إن الله مولاي، وأنا مولىٰ المؤمنين»؟ ولماذا فسر كلمته ــ وأنا مولىٰ المؤمنين ــ بقوله: «وأنا أولىٰ بهم من أنفسهم»؟ ولماذا قال بعد هذا التفسير: «فمن كنت مولاه، فهذا مولاه أو من كنت وليه فهذا وليه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله»؟ ولم خصه بهذه الدعوات التي لا يليق لها إلا أئمة الحق، وخلفاء الصدق؟ ولماذا أشهدهم من قبل، فقال: «ألست أولىٰ بكم من أنفسكم؟» فقالوا: بلىٰ. فقال: «من كنت مولاه، فعلي مولاه، أو من كنت وليه، فعلي وليه»؟ ولماذا قرن العترة بالكتاب؟ وجعلها قدوة لأولي الألباب إلىٰ يوم الحساب؟ وفيم هذا الاهتمام العظيم من هذا النبي الحكيم؟ وما المهمة التي احتاجت إلىٰ هذه المقدمات كلها؟ وما الغاية التي توخاها في هذا الموقف المشهود؟ وما الشيء الذي أمره الله تعالىٰ بتبليغه إذ قال عز من قائل: ﴿ يَاأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَٱللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِ﴾ [المائدة: 67]. وأي مهمة استوجبت من الله هذا التأكيد؟ واقتضت الحض علىٰ تبليغها بما يشبه التهديد؟ وأي أمر يخشىٰ النبي الفتنة بتبليغه؟ ويحتاج إلىٰ عصمة الله من أذىٰ المنافقين ببيانه؟
أكنتم ــ بجدك لو سألكم عن هذا كله ــ تجيبونه بأن الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم إنما أراد بيان نصرة علي للمسلمين، وصداقته لهم ليس إلا، ما أراكم ترتضون هذا الجواب، ولا أتوهم أنكم ترون مضمونه جائزا علىٰ رب الأرباب، ولا علىٰ سيد الحكماء، وخاتم الرسل والأنبياء، وأنتم أجل من أن تجوزوا عليه أن يصرف هممه كلها، وعزائمه بأسرها، إلىٰ تبيين شيء بين لا يحتاج إلىٰ بيان، وتوضيح أمر واضح بحكم الوجداًن والعيان، ولا شك أنكم تنزهون أفعاله وأقواله عن أن تزدري بها العقلاء، أو ينتقدها الفلاسفة والحكماء، بل لا ريب في أنكم تعرفون مكانة قوله وفعله من الحكمة والعصمة، وقد قال الله تعالىٰ: ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي ٱلْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ﴾ [التّكوير: 19-22]. فيهتم بتوضيح الواضحات، وتبيين ما هو بحكم البديهيات، ويقدم لتوضيح هذا الواضح مقدمات أجنبية، لا ربط له بها ولا دخل لها فيه، تعالىٰ الله عن ذلك ورسوله علواً كبيراً. وأنت نصر الله بك الحق ــ تعلم أن الذي يناسب مقامه في ذلك الهجير، ويليق بأفعاله وأقواله يوم الغدير، إنما هو تبليغ عهده، وتعيين القائم مقامه من بعده، والقرائن اللفظية، والأدلة العقلية، توجب القطع الثابت الجازم بأنه صلى الله عليه وآله وسلم ما أراد يومئذ إلا تعيين علي ولياً لعهده، وقائماً مقامه من بعده، فالحديث مع ما قد حف به من القرائن نص جلي في خلافة علي، لا يقبل التأويل، وليس إلىٰ صرفه عن هذا المعنىٰ من سبيل، وهذا واضح ﴿ لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى ٱلسَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ [قٓ: 37].
أما القرينة التي زعموها فجزاف وتضليل، ولباقة في التخليط والتهويل، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بعث علياً إلىٰ اليمن مرتين، والأولىٰ كانت سنة ثمان، وفيها أرجف المرجفون به، وشكوه إلىٰ النبي بعد رجوعهم إلىٰ المدينة، فأنكر عليهم ذلك حتىٰ أبصروا الغضب في وجهه، فلم يعودوا لمثلها، والثانية كانت سنة عشر وفيها عقد النبي له اللواء وعممه صلى الله عليه وآله وسلم بيده، وقال له: «امض ولا تلتفت». فمضىٰ لوجهه راشداً مهدياً حتىٰ أنفذ أمر النبي، ووافاه صلى الله عليه وآله وسلم، في حجة الوداع، وقد أهل بما أهل به رسول الله فأشركه صلى الله عليه وآله وسلم بهديه، وفي تلك المرة لم يرجف به مرجف، ولا تحامل عليه مجحف، فكيف يمكن أن يكون الحديث مسبباً عما قاله المعترضون؟ أو مسوقاً للرد علىٰ أحد كما يزعمون. علىٰ أن مجرد التحامل علىٰ علي، لا يمكن أن يكون سبباً لثناء النبي عليه، بالشكل الذي أشاد به صلى الله عليه وآله وسلم، علىٰ منبر الحدائج يوم خم، إلا أن يكون ــ والعياذ بالله ــ مجازفاً في أقواله وأفعاله، وهممه وعزائمه، وحاشا قدسي حكمته البالغة، فإن الله سبحانه يقول: ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ ولَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ﴾ [الحَاقَّة: 40-43]. ولو أراد مجرد بيان فضله، والرد علىٰ المتحاملين عليه، لقال: «هذا ابن عمي، وصهري، وأبو ولدي، وسيد أهل بيتي، فلا تؤذوني فيه». أو نحو ذلك من الأقوال الدالة علىٰ مجرد الفضل وجلالة القدر، علىٰ أن لفظ الحديث لا يتبادر إلىٰ الأذهان منه إلا ما قلناه، فليكن سببه مهما كان، فإن الألفاظ إنما تحمل علىٰ ما يتبادر إلىٰ الأفهام منها، ولا يلتفت إلىٰ أسبابها كما لا يخفىٰ.
وأما ذكر أهل بيته في حديث الغدير، فإنه من مؤيدات المعنىٰ الذي قلناه، حيث قرنهم بمحكم الكتاب، وجعلهم قدوة لأولي الألباب، فقال: «إني تارك فيكم ما أن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي». وإنما فعل ذلك لتعلم الأمة أن لا مرجع بعد نبيها إلا إليهما، ولا معول لها من بعده إلا عليهما، وحسبك في وجوب اتباع الأئمة من العترة الطاهرة اقترانهم بكتاب الله عز وجل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فكما لا يجوز الرجوع إلىٰ كتاب يخالف في حكمه كتاب الله سبحانه تعالى، لا يجوز الرجوع إلىٰ إمام يخالف في حكمه أئمة العترة، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «إنهما لن ينقضيا أو لن يفترقا حتىٰ يردا علي الحوض»؛ دليل علىٰ أن الأرض لن تخلو بعده من إمام منهم، هو عدل الكتاب، ومن تدبر الحديث وجده يرمي إلىٰ حصر الخلافة في أئمة العترة الطاهرة، ويؤيد ذلك ما أخرجه الإمام أحمد في مسنده، عن زيد بن ثابت، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إني تارك فيكم خليفتين: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلىٰ الأرض، وعترتي أهل بيتي. فإنهما لن يفترقا حتىٰ يردا علي الحوض» اهــ.
وهذا نص في خلافة أئمة العترة ؟م، وأنت تعلم أن النص علىٰ وجوب اتباع العترة، نص علىٰ وجوب اتباع علي، إذ هو سيد العترة لا يدافع، وإمامها لا ينازع، فحديث الغدير وأمثاله، يشتمل علىٰ النص علىٰ علي تارة، من حيث أنه إمام العترة، المنزلة من الله ورسوله منزلة الكتاب، وأخرىٰ من حيث شخصه العظيم، وأنه ولي كل من كان رسول الله وليه، والسلام. «ش».