أوّلاً: هـٰذه القصّة ليس لها سندٌ صحيحٌ، ولم يثبت عن علي رضي الله عنه أنه تصدّق بالخاتم وهو راكعٌ، وهم يريدون مدحاً لعلي رضي الله عنه بأي سبيل ولو كان باختلاق الأحاديث الموضوعة والباطلة فيذمّونه، وهو ممدوحٌ بما مدحه الله تعالىٰ وبما مدحه رسول الله ، فالله تبارك وتعالىٰ يقول: ﴿قَدْ أَفْلَحَ ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾  [المؤمنون: 1-2]، والنّبي  يقول: «إن في الصّلاة شغلاً»([1]).

فكيف نرضىٰ لعلي رضي الله عنه ــ وهو من رؤوس الخاشعين وأئمّتهم ــ أن يتصدّق وهو يصلّي، أما كان يستطيع أن ينتظر حتّىٰ يقضي صلاته ثم يتصدّق؟

بالطبع كان يستطيع ذٰلك، والواجب علىٰ المسلم أن يخشع في صلاته قدر ما يستطيع، ويؤخّر مثل هـٰذه الأمور إلىٰ ما بعد الصّلاة.

ثانياً: إن الأصل في الزّكاة أن يبدأ بها المزكّي لا أن ينتظر حتّىٰ يأتيه الطّالب، فأيهما أفضل: أن تبادر بدفع الزّكاة، أو أن تجلس في بيتك تنتظر حتّىٰ يطرقوا عليك الباب فتعطيهم زكاة أموالك؟ لا شكّ إن الأوّل هو الأفضل.

ثالثاً: إن علياً رضي الله عنه كان فقيراً في حياة رسول الله ، ولذٰلك كان مهر فاطمة من علي درعاً فقط، لم يمهرها مالاً غير الدّرع؛ لأنه لم يكن له مالٌ رضي الله عنه، فمثله لا تجب عليه الزّكاة، بل لم تجب عليه الزّكاة في حياة النّبي .

رابعاً: هـٰذه الآية ليس فيها إعطاء الزّكاة في حال الرّكوع، وإلّا كان كل إنسان يمدح إذا دفع الزّكاة وهو راكعٌ؛ بناءً علىٰ قولهم إن الله مدح من يدفع الزّكاة وهو راكعٌ، فتكون السُّنة في دفع الزّكاة أن يدفعها المسلم وهو راكعٌ، وهـٰذا لم يقل به أحدٌ.

خامساً: ذكر الله ــ تبارك وتعالىٰ ــ إقامة الصّلاة وهي غير الأداء؛ لأن إقامة الصّلاة ــ كما يقول ابن عبّاس ــ هي أن يؤدّيها كما أدّاها رسول الله ، أي: علىٰ الكمال في الطّهارة، وعلىٰ الكمال في الأداء: في الرّكوع، وفي السّجود، وفي الخشوع، وفي الذّكر، وفي القراءة.

إذاً فلم يقول: ﴿ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ ؟

وكيف كرّر الرّكوع بعد ذكر إقامة الصّلاة؟

لا شكّ إن المراد ركوعٌ آخر، نعم؛ إنه الخضوع لله العظيم الجليل، ومن أدلّته:

قول الله تبارك وتعالىٰ عن داود: ﴿ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَٱسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ﴾  [صٓ: 24]، أي: خرّ ساجداً، وإنما سمّاه راكعاً للذّلّ والخضوع لله تبارك وتعالىٰ.

وقوله تبارك وتعالىٰ: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱرْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ﴾  [المُرسَلات: 48]، أي: صلّوا الصّلاة التي فيها الرّكوع، وقيل: اخضعوا واستسلموا لأمر الله تبارك وتعالىٰ([2]).

وكذٰلك قوله عز وجل: ﴿يَامَرْيَمُ ٱقْنُتِي لِرَّبِكِ وٱسْجُدِي وَٱرْكَعِي مَعَ ٱلرَّاكِعِينَ﴾  [آل عِمرَان: 43] أي: صلّي مع المصلّين، وقيل: اخضعي واخشعي لأمر الله تبارك وتعالىٰ. فمريم كانت منقطعةً للعبادة، وهي ممّن لا تجب عليها صلاة الجماعة([3]).

فتبين مما سبق أنه ليس مقصود الله ــ تبارك وتعالىٰ ــ في هـٰذه الآية أن المسلم يستحبّ له أن يدفع الزّكاة وهو راكعٌ.

سادساً: سبب نزول هـٰذه الآية أنه لمّا خانت بنو قينقاع الرّسول  ذهبوا إلىٰ عبادة بن الصّامت رضي الله عنه ــ كما أخرج ذٰلك ابن جرير في «تفسيره» ــ، وأرادوه أن يكون معهم، فتركهم وعاداهم وتولّىٰ الله ورسوله ، فأنزل الله جلّ وعلا الآية: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ ، أي: والحال إنهم خاضعون في كل شؤونهم لله تبارك وتعالىٰ.

وقال الله تبارك وتعالىٰ في أوّل الآيات: ﴿يَاأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا ٱلْيَهُودَ وَٱلنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ﴾ ، يعني عبد الله بن أبي بن سلول؛ لأنه كان موالياً لبني قينقاع، ولما حصلت الخصومة بينهم وبين النّبي  والاهم ونصرهم ووقف معهم، وذهب إلىٰ النّبي  يشفع لهم لما خانوا. أمّا عبادة بن الصّامت رضي الله عنه فإنه تبرّأ منهم وتركهم، فأنزل الله تبارك وتعالىٰ: ﴿ يَاأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا ٱلْيَهُودَ وَٱلنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ ، ثمّ عقّب تبارك وتعالىٰ بذكر صفة المؤمنين وهو عبادة بن الصّامت رضي الله عنه ومن اتّبعه: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ ، فهـٰذه الآية نزلت في عبادة رضي الله عنه، كما أخرجه الطبري([4])، قال: حدثنا هناد بن السري، حدثنا يونس بن بكير، حدثنا ابن إسحاق، حدثنا أبي إسحاق بن يسار، عن عبادة بن الوليد بن عبادة ابن الصامت، به.

وإسناده حسن، وعبادة بن الوليد سمع من جده عبادة بن الصامت، ولكنه هنا لم يسنده إليه، والله أعلم.

سابعاً: إنه يستطيع كل أحد أن يقول مثل هـٰذا الكلام، فيستطيع محبّو معاوية رضي الله عنه أن يقولوا: نزلت في معاوية. وأن يأتوا بحديث مكذوب في هـٰذا المعنىٰ كما أتىٰ غيرهم بحديث مكذوب عن علي رضي الله عنه، ثم يأتي محبّو عثمان رضي الله عنه ويقولون: نزلت في عثمان، ويأتون أيضا بحديث مكذوب، وهلمّ جرّاً.

ثامناً: علىٰ فرض نزولها في علي رضي الله عنه؛ فإنها لا تدلّ علىٰ استحقاقه الخلافة بعد رسول الله ، وإنما تدلّ علىٰ أننا يجب أن نتولّىٰ علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ونحن نتولّاه بالمحبّة والثّناء والاعتراف بالفضل.

تاسعاً: الآية جاءت بلفظ الجمع، وعلي فردٌ واحدٌ، ونحن وإن كنّا نقول إنه يمكن أن يذكر الجمع ويراد به المفرد، إلا أن الأصل أنه إذا أطلق الجمع أريد به الجمع إلّا بقرينة، ولا قرينة هنا.

وهنا لطيفةٌ وهي أن الجمع إذا أطلق في حقّ المفرد فإنه يكون للتّعظيم، فكيف يذكر علي رضي الله عنه بصيغة الجمع، ويذكر الله ورسوله بصيغة المفرد؟!

عاشراً: يذكر بعض علمائهم أن قول الله تبارك وتعالىٰ: ﴿إِنَّمَا﴾ ؛ للحصر ــ أي تحصر الولاية بعلي ــ فتبطل خلافة من سبق، يعنون: أبا بكر وعمر وعثمان). فأقول: ونحن قد أبطلنا بالأدلة الصحيحة أن تكون هـٰذه الآية نزلت في علي رضي الله عنه.

ثم لو فرضنا أن قوله ﴿إِنَّمَا﴾ ؛ للحصر وهي تبطل خلافة أبي بكر وعمر وعثمان؛ فهي إذاً ــ إذا كانت للحصر ــ تبطل خلافة كل من: الحسن، والحسين، وعلي بن الحسين، ومحمد الباقر، وجعفر، وسائر الأئمّة؛ لأن هـٰذا هو مقتضىٰ الحصر المزعوم عندهم.

وعجبت ــ ولا ينتهي عجبي من عبدالحسين ــ من قوله: «ولولا مراعاة الاختصار لاستوفينا فيها ما جاء من صحيح الأخبار».

فأقول: بل والله! هـٰذه الأخبار الصحيحة التي عندهم هي أحبّ إلي من حمر النّعم، وأظنّ أن لو كان عنده شيءٌ من «صحيح الأخبار» ــ في هذا الشّأن ــ؛ لما تردّد في ذكرها. وكيف يدّعي الاختصار وهو يذكر في مراجعاته هـٰذه ــ بل وفي سائر كتبه ــ الكثير من الأحاديث الصّحيحة والضّعيفة بل والموضوعة وهي الأكثر؟!

جود الرّجال من الأيدي وجودهم       

                                             من اللّسان فلا كانوا ولا الجود

 

([1])        أخرجه البخاري (1199)، ومسلم (538).
وبيان سبب هـٰذا الحديث يبين أن واجب الصّلاة أولىٰ من أي واجب آخر، حيث فيه أن عبدالله بن مسعود  ﷺ قال: كنّا نسلّم علىٰ النّبي  ﷺ وهو في الصّلاة؛ فيردّ علينا. فلمّا رجعنا من عند النّجاشي سلّمنا عليه؛ فلم يردّ علينا وقال: «إن في الصّلاة شغلاً».

([2])       انظر «تفسير الطّبري» (23/613)، «تفسير القرطبي» (19/168)، «تفسيرابن كثير» (8/301).

([3])       انظر «تفسير القرطبي» (4/84)، «مفاتيح الغيب» (8/218)، و«فتح القدير» (1/388).

([4])       «تفسير الطبري» (8/529).