يَاأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ
24-03-2023
[19] ﴿يَاأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَٱللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ﴾ [المَائدة: 67].
قال عبدالحسين في تعليقه علىٰ هـٰذه الآية: «ألم يؤمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بتبليغها؟ ألم يضيق عليه في ذٰلك بما يشبه التهديد من الله عز وجل حيث يقول وإن لم تفعل.. الآية» اهـ.
فأقول: يدعي الشيعة أن هذه الآية نزلت في غدير «خُم» بعد أن أعلن النبي ﷺ الخلافة لعلي، وإن دعوى نزول هـٰذه الآية في غدير «خم» بعد قول النّبي لعلي: «من كنت مولاه؛ فهـٰذا علي مولاه»؛ لا يسلّم بها؛ وذٰلك إن الحديث الوارد في ذٰلك ضعيف مردودٌ، وهو ما أخرجه الواحدي في «أسباب النّزول»([1]): أخبرنا أبو سعيد محمد بن علي الصّفار، قال: أخبرنا الحسن بن أحمد المخلدي، قال: أخبرنا محمد بن حمدون بن خالد، قال: حدّثنا محمد بن إبراهيم الحلواني، قال: حدّثنا الحسن بن حمّاد سجّادة، قال: حدّثنا علي بن عابس، عن الأعمش وأبي الحجاب، عن عطية، عن أبي سعيد الخدري قال: نزلت هذه الآية: ﴿ يَاأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾ يوم غدير خمّ في علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
حديثٌ مردودٌ، فيه ضعيفان:
الأول: عطية بن سعد العوفي، ضعيف لا يحتجّ به([2]).
والثاني: علي بن عابس، ضعيف جدّاً، قال ابن معين: «ليس بشيء»([3]).
وقال ابن حبّان: «ممن فحش خطؤه وكثر وهمه فيما يرويه؛ فبطل الاحتجاج به»([4]).
وقد جاء في سبب نزول هذه الآية ما هو أصحّ من هذا الحديث المردود؛ وهو ما أخرجه التّرمذي([5])، قال: حدّثنا عبد بن حميد، قال: حدّثنا مسلم بن إبراهيم، قال: حدّثنا الحارث بن عبيد، عن سعيد الجريري، عن عبد الله بن شقيق، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النّبي يحرس حتّىٰ نزلت هـٰذه الآية: ﴿ وَٱللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِ﴾ ؛ فأخرج رسول الله رأسه من القبّة، فقال لهم: «يا أيها النّاس! انصرفوا؛ فقد عصمني الله».
قال التّرمذي معقّباً ــ بعد أن ساق للحديث روايةً أخرىٰ من طريق مسلم بن إبراهيم عن الحارث به ــ: «هـٰذا حديثٌ غريبٌ. وروىٰ بعضهم هـٰذا الحديث عن الجريري عن عبد الله بن شقيق قال: كان النّبي يحرس. ولم يذكروا فيه عن عائشة»([6]).
وفيه الحارث بن عبيد الإيادي، وقد ضعّفه ابن معين([7])، والنّسائي([8]). وقال الحافظ: «صدوقٌ يخطئ»([9]).
وفيه سعيد بن إياس الجريري، وهو ثقةٌ، إلّا أنه اختلط قبل موته بثلاث سنين([10]).
واختلف في إسناد هذا الحديث وصلاً وإرسالاً، والظّاهر إنه مرسلٌ كما ألمح إليه التّرمذي.
وقال الحافظ ابن حجر: «إسناده حسنٌ، واختلف في وصله وإرساله»([11]).
وقال الألباني: «صحيحٌ مرسلٌ»([12]).
قلت: وله شاهدٌ إسناده حسنٌ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصّة الأعرابي الذي أراد قتل النّبي وفيه: فأنزل الله: ﴿ يَاأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَٱللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِ﴾ .
أخرجه ابن أبي شيبة([13])، وابن مردويه([14]): حدثنا أحمد بن محمد بن إبراهيم، حدثنا محمد بن عبدالوهاب، حدثنا آدم [هو ابن أبي إياس].
وأخرجه ابن حبّان([15]): أخبرنا عبدالله بن محمد الأزدي، حدثنا إسحاق ابن إبراهيم، عن مؤمل بن إسماعيل.
كلاهما (مؤمل، وآدم) من طريق حماد بن سلمة، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: كنا إذا نزلنا طلبنا للنبي ﷺ أعظم شجرة وأظلها فنزل تحت شجرة، فجاء رجل فأخذ سيفه فقال: يا محمد من يمنعك مني؟ قال: «الله»، فأنزل الله: ﴿ وَٱللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِ﴾ .
في إسناد ابن حبان مؤمل بن إسماعيل، وهو ثقة، ولكنه يخطئ كثيراً، قال أبو زرعة: «في حديثه خطأ كثير»، وقال البخاري: «منكر الحديث»، وقال أبو حاتم: «صدوق كثير الخطأ»، ووثقه ابن معين([16]). ولكن تابعه آدم بن أبي إياس وهو ثقة، والحديث مخرج في الصحيحين([17])، من حديث جابر بن عبد الله، وليس فيه ذكر نزول الآية، والله أعلم.
وقد حسّنه الحافظ ابن حجر([18])، وكذا الألباني([19]).
هذا؛ وقد سبق قديماً علّامتهم الحلّي عبدالحسين بدعوىٰ هي أكبر من هـٰذه في كتابه «منهاج الكرامة»([20])؛ حيث ادّعىٰ اتّفاق المفسّرين علىٰ نزول هـٰذه الآية في علي!
القول الصّواب في تأويل هذه الآية:
قال الطّبري رحمه الله: «هـٰذا أمرٌ من الله ــ تعالىٰ ذكره ــ لنبيه محمد بإبلاغ هـٰؤلاء اليهود والنّصارىٰ من أهل الكتابين الذين قصّ الله ــ تعالىٰ ذكره ــ قصصهم في هـٰذه السّورة، وذكر فيها معايبهم»([21]).
وقال القرطبي رحمه الله: «دلّت الآية علىٰ ردّ قول من قال: إن النّبي كتم شيئاً من أمر الدّين تقيةً، وعلىٰ بطلانه، وهم الرّافضة»([22]).
وقال الشّوكاني رحمه الله: «العموم الكائن فيما أنزل؛ يفيد أنه يجب عليه أن يبلّغ جميع ما أنزله الله إليه لا يكتم منه شيئاً، وفيه دليلٌ علىٰ أنه لم يسرّ إلىٰ أحد مما يتعلّق بما أنزل الله إليه شيئاً»([23]).
([1]) «أسباب النزول» (ص224، 351).
([2]) تقدّم بيان حاله في المراجعة رقم (8)، الحديث رقم (2).
([3]) «تاريخ ابن معين» رواية الدّوري (1349، 2399).
([4]) «المجروحون» لابن حبان (2/79).
([6]) رواه مرسلاً عن عبدالله بن شقيق الطبري في «تفسيره» (8/569)، من طريق إسماعيل ابن علية عن الجريري، به.
([7]) «التاريخ» رواية الدوري (2/93).
([10]) «تقريب التهذيب» (2286).
([12]) «السّلسلة الصّحيحة» (5/645).
([13]) كما في «فتح الباري» لابن حجر (6/98).
([14]) كما في «تفسير ابن كثير» (3/155).
([15]) كما في «موارد الظمآن» للهيثمي (1/430).
([16]) «ميزان الاعتدال» (4/228).
([17]) «صحيح البخاري» (2910)، «صحيح مسلم» (843).
([19]) السلسلة الصّحيحة» (5/645).
([20]) هذا الكتاب ردّ عليه شيخ الإسلام ابن تيمية بكتاب «منهاج السنة النبوية».