إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ
23-03-2023
[14] ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ وَمَنْ يَتَوَلَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلْغَالِبُونَ﴾ [المَائدة: 55-56].
هـٰذه الآية كثيراً ما يستدلّ بها علماء الشيعة علىٰ أحقّية علي بالإمامة دون من سواه، ويذكرون في تفسيرها حديثاً عن علي رضي الله عنه: أنه كان راكعاً في الصّلاة، فجاء فقيرٌ يسأل الصّدقة، وقيل يسأل الزّكاة، فمدّ عليٌ يده وفيها خاتمٌ، فأخذ الفقير الخاتم من يد علي رضي الله عنه، فأنزل الله تبارك وتعالىٰ: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ . قالوا: وما أعطىٰ الزّكاة وهو راكعٌ إلّا علي، فصار هو الولي، فهو الخليفة!
والرّدّ من عشرة وجوه:
أوّلاً: هـٰذه القصّة ليس لها سندٌ صحيحٌ، ولم يثبت عن علي رضي الله عنه أنه تصدّق بالخاتم وهو راكعٌ، وهم يريدون مدحاً لعلي رضي الله عنه بأي سبيل ولو كان باختلاق الأحاديث الموضوعة والباطلة فيذمّونه، وهو ممدوحٌ بما مدحه الله تعالىٰ وبما مدحه رسول الله ، فالله تبارك وتعالىٰ يقول: ﴿قَدْ أَفْلَحَ ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾ [المؤمنون: 1-2].
والنّبي يقول: «إن في الصّلاة شغلاً»([1])، فكيف نرضىٰ لعلي رضي الله عنه ــ وهو من رؤوس الخاشعين وأئمّتهم ــ أن يتصدّق وهو يصلّي، أما كان يستطيع أن ينتظر حتّىٰ يقضي صلاته ثم يتصدّق؟
بالطبع كان يستطيع ذٰلك، والواجب علىٰ المسلم أن يخشع في صلاته قدر ما يستطيع، ويؤخّر مثل هـٰذه الأمور إلىٰ ما بعد الصّلاة.
ثانياً: إن الأصل في الزّكاة أن يبدأ بها المزكّي لا أن ينتظر حتّىٰ يأتيه الطّالب، فأيهما أفضل: أن تبادر بدفع الزّكاة، أو أن تجلس في بيتك تنتظر حتّىٰ يطرقوا عليك الباب فتعطيهم زكاة أموالك؟ وماذا لو لم يطرقوا الباب؟ لا شكّ أن الأوّل هو الأفضل.
ثالثاً: إن علياً رضي الله عنه كان فقيراً في حياة رسول الله ، ولذٰلك كان مهر فاطمة من علي رضي الله عنهما درعاً فقط! لم يمهرها مالاً غير الدّرع؛ لأنه لم يكن له مالٌ رضي الله عنه، فمثله لا تجب عليه الزّكاة، بل لم تجب عليه الزّكاة في حياة النّبي .
رابعاً: هـٰذه الآية ليس فيها إعطاء الزّكاة في حال الرّكوع، وإلّا كان كل إنسان يمدح إذا دفع الزّكاة وهو راكعٌ؛ بناءً علىٰ قولهم إن الله مدح من يدفع الزّكاة وهو راكعٌ، فتكون السُّنة في دفع الزّكاة أن يدفعها المسلم وهو راكعٌ، وهـٰذا لم يقل به أحدٌ فيما أعلم.
خامساً: ذكر الله ــ تبارك وتعالىٰ ــ إقامة الصّلاة وهي غير الأداء؛ لأن إقامة الصّلاة هي أن يؤدّيها كما أدّاها رسول الله : علىٰ الكمال في الطّهارة، وعلىٰ الكمال في الأداء: وهو ــ كما قال ابن عباس ــ تمام الرّكوع والسّجود والتّلاوة والخشوع والإقبال عليها فيها([2]).
إذاً فلم يقول: ﴿ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ ؟ وكيف كرّر الرّكوع بعد ذكر إقامة الصّلاة؟
لا شكّ أن المراد ركوعٌ آخر، نعم؛ إنه الخضوع لله العظيم الجليل، ومن أدلّته قول الله تبارك وتعالىٰ عن داود: ﴿ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَٱسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ﴾ [صٓ: 24]، أي: خرّ ساجداً، وإنما سمّاه راكعاً للذّلّ والخضوع لله تبارك وتعالىٰ.
وكذا قوله تبارك وتعالىٰ: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱرْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ﴾ [المُرسَلات: 48]، أي: اخضعوا واستسلموا لأمر الله تبارك وتعالىٰ.
وكذٰلك قوله عز وجل: ﴿يَامَرْيَمُ ٱقْنُتِي لِرَّبِكِ وٱسْجُدِي وَٱرْكَعِي مَعَ ٱلرَّاكِعِينَ﴾ [آل عمران: 43]، أي: اخضعي واخشعي لأمر الله تبارك وتعالىٰ، فمريم كانت منقطعةً للعبادة، وهي ممّن لا تجب عليها صلاة الجماعة.
إذاً قد تبين مما سبق أنه ليس مقصود الله ــ تبارك وتعالىٰ ــ في هـٰذه الآية أن المسلم يستحبّ له أن يدفع الزّكاة وهو راكعٌ.
سادساً: سبب نزول هـٰذه الآية أنه لمّا خانت بنو قينقاع الرّسول ذهبوا إلىٰ عبادة بن الصّامت رضي الله عنه، وأرادوه أن يكون معهم، فتركهم وعاداهم وتولّىٰ الله ورسوله ، فأنزل الله جلّ وعلا الآية: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ ([3])، أي: والحال أنهم خاضعون في كل شؤونهم لله تبارك وتعالىٰ.
ولذٰلك قال الله ــ تبارك وتعالىٰ ــ في أوّل الآيات: ﴿ يَاأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا ٱلْيَهُودَ وَٱلنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ [المَائدة: 51]، يعني عبد الله بن أبي بن سلول؛ لأنه كان موالياً لبني قينقاع، ولما حصلت الخصومة بينهم وبين النّبي والاهم ونصرهم ووقف معهم، وذهب إلىٰ النّبي يشفع لهم لما خانوا.
أمّا عبادة بن الصّامت رضي الله عنه فإنه تبرّأ منهم وتركهم، فأنزل الله تبارك وتعالىٰ: ﴿ يَاأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا ٱلْيَهُودَ وَٱلنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ ، ثمّ عقّب ــ تبارك وتعالىٰ ــ بذكر صفة المؤمنين وهو عبادة بن الصّامت رضي الله عنه ومن اتّبعه: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ ، فهـٰذه الآية نزلت في عبادة رضي الله عنه.
سابعاً: إنه يستطيع كل أحد أن يقول مثل هـٰذا الكلام، فيستطيع محبّو معاوية رضي الله عنه أن يقولوا: نزلت في معاوية. وأن يأتوا بحديث في هـٰذا المعنىٰ كما أتىٰ غيرهم بحديث عن علي رضي الله عنه، ثم يأتي محبّو عثمان رضي الله عنه ويقولون: نزلت في عثمان، ويأتون أيضا بحديث، وهلمّ جرّاً.
ثامناً: علىٰ فرض نزولها في علي رضي الله عنه؛ فإنها لا تدلّ علىٰ استحقاقه الخلافة بعد رسول الله ، وإنما تدلّ علىٰ أننا يجب أن نتولّىٰ علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ونحن نتولّاه بالمحبّة والثّناء والاعتراف بالفضل.
تاسعاً: الآية جاءت بلفظ الجمع، وعلي فردٌ واحدٌ، ونحن وإن كنّا نقول: إنه يمكن أن يُذكر الجمع ويراد به المفرد، إلّا أن الأصل أنه إذا أطلق الجمع أريد به الجمع إلّا بقرينة، ولا قرينة هنا.
وهنا مسألة: إن قيل: إن الجمع يطلق على المفرد لإرادة تعظيمه، وهو هنا كذلك لعلي، فيقال: فكيف نقبل أن يُذكر اللهُ ــ جل وعلا ــ بالإفراد، ويُذكر رسولُه ﷺ بالإفراد، ويُذكر عليٌ بالجمع للتعظيم! فأين ذهبتْ عقولكم؟! وأنىٰ تصرفون، وأنىٰ تهرفون بما لا تعرفون!
عاشراً: يذكر بعض علمائهم أن قول الله تبارك وتعالىٰ: ﴿إِنَّمَا﴾ ؛ للحصر ــ أي تحصر علياً بالولاية ــ فتبطل خلافة من سبق، يعنون أبا بكر وعمر وعثمان. فأقول: ونحن قد أبطلنا بالأدلة الصحيحة أن تكون هـٰذه الآية نزلت في علي رضي الله عنه.
ثم لو فرضنا أن قوله ﴿إِنَّمَا﴾ ؛ للحصر وهي تبطل خلافة أبي بكر وعمر وعثمان؛ فهي إذاً ــ إذا كانت للحصر ــ تبطل خلافة كل من الحسن، والحسين، وعلي بن الحسين، ومحمد الباقر، وجعفر، وسائر الأئمّة؛ لأن هـٰذا هو مقتضىٰ الحصر المزعوم عندهم.
([1]) أخرجه البخاري في «صحيحه» (1199)، ومسلم في «صحيحه» (538).
وبيان سبب هـٰذا الحديث يبين أن واجب الصّلاة أولىٰ من أي واجب آخر، حيث فيه أن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: كنّا نسلّم علىٰ النّبي ﷺ وهو في الصّلاة؛ فيردّ علينا. فلمّا رجعنا من عند النّجاشي سلّمنا عليه؛ فلم يردّ علينا وقال: «إن في الصّلاة شغلاً».