[2] آية المودّة: ﴿ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا ٱلْمَوَدَّةَ فِي ٱلْقُرْبَى﴾  [الشّورىٰ: 23].

القول الصّواب في تأويل هذه الآية؛ ما جاء في «صحيح البخاري»([1]) عن ابن عبّاس رضي الله عنه أنه سئل عن قوله تعالىٰ: ﴿ إِلَّا ٱلْمَوَدَّةَ فِي ٱلْقُرْبَى﴾ ،فقال سعيد بن جبير: «قربىٰ آل محمد ﷺ». فقال ابن عبّاس: «عجلت! إن النّبي  لم يكن بطنٌ من قريش إلّا كان له فيهم قرابةٌ؛ فقال: إلّا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة»([2]).

ويؤكّد هـٰذا أن النّبي  لا يسأل أجراً أبداً، كما قال تعالىٰ: ﴿قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ ٱلْمُتَكَلِّفِينَ﴾  [صٓ: 86]، وقال عز وجل: ﴿وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ﴾  [يُوسُف: 104]، وقال تبارك وتعالىٰ: ﴿ قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى ٱللَّهِ﴾  [سبأ: 47]، وقال: ﴿ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى ٱللَّهِ﴾  [يُونس: 72]، ولو كان سألهم أجراً لردوا عليه بقولهم: بل سألت المودة في القربى، والآيات في هذا كثيرة، وهـٰكذا قال مثل قوله جميعُ الأنبياء ؟م، وهو أكملهم :

قال نوحٌ عليه السلام: ﴿وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ﴾  [الشُّعَرَاء: 109]. وقال هودٌ عليه السلام: ﴿وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ﴾  [الشُّعَرَاء: 127] وقال صالحٌ عليه السلام: ﴿وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ﴾  [الشُّعَرَاء: 145]. وقال لوطٌ عليه السلام: ﴿وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ﴾  [الشُّعَرَاء: 164]. وقال شعيبٌ عليه السلام: ﴿وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ﴾ . والنّبي  أكرم الأنبياء وأفضلهم، وهو أولىٰ بأن لا يسأل أجراً.

وقول الله تبارك وتعالىٰ: ﴿ إِلَّا ٱلْمَوَدَّةَ فِي ٱلْقُرْبَى﴾ ، معنىٰ ﴿إِلَّا﴾ هنا: إمّا أن تكون استثناءً متّصلاً، وإمّا أن تكون استثناءً منقطعاً، أي بمعنىٰ (لكن)، وهو الصّحيح بدلالة الآيات التي ذكرناها قريباً، وهي أن النّبي  لا يسأل أجراً أبداً. فيكون معنىٰ ﴿ إِلَّا ٱلْمَوَدَّةَ فِي ٱلْقُرْبَى﴾ ؛ أي ولكن ودّوني في قرابتي، أنا قريبٌ منكم، دعوني أدعو النّاس. وقد ثبت عن النّبي  أنه سأل قريشاً أن يتركوه يدعو إلىٰ الله، فإن ظهر؛ كان لهم من ظهوره نصيبٌ، وإن قتله النّاس؛ يسلمون من دمه، فالنّبي  ما سأل أجراً لا لنفسه ولا لأحد من قرابته.

ثمّ لو كان يريد أجراً لقرابته؛ لقال: «لذي القربىٰ»، أو: «لذوي القربىٰ»، أمّا أن يقول: ﴿ إِلَّا ٱلْمَوَدَّةَ فِي ٱلْقُرْبَى﴾ بمعنىٰ: طلب الأجر لقرابته؛ فلا يصحّ. ثمّ إن هـٰذه الآية مكّيةٌ، وكان عليٌ وقت نزولها صغيراً لم يتزوّج فاطمة، ومن ثمّ الحسن والحسين لم يولدا بعد.

وها هي بعض أقوال العلماء المحقّقين في تأكيد ما تقدّم:

قال شيخ الإسلام رحمه الله: «جميع ما في القرآن من التّوصية بحقوق ذوي قربىٰ النّبي  وذوي قربىٰ الإنسان؛ إنما قيل فيها: ﴿ ذَوِي ٱلْقُرْبَى﴾ ، لم يقل: في القربىٰ»([3]).

ثمّ نقول كذٰلك: ليس مناسباً لشأن النّبوة طلب الأجر وهو مودّة ذوي قرباه؛ لأن هـٰذا من شيمة طالبي الدّنيا، ثمّ إن هـٰذا القول يوجب تهمة النّبي .

روىٰ الإمام البخاري في «صحيحه»، من طريق طاوس، عن ابن عبّاس ؛ أنه سئل عن قوله: ﴿ إِلَّا ٱلْمَوَدَّةَ فِي ٱلْقُرْبَى﴾ ، فقال سعيد بن جبير: قربىٰ آل محمد ، فقال ابن عبّاس: «عجلت! إن النّبي  لم يكن بطنٌ من قريش إلّا كان له فيهم قرابةٌ، فقال: إلّا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة»([4]).

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وهـٰذا الذي جزم به سعيد بن جبير، قد جاء عنه من روايته عن ابن عبّاس مرفوعاً، فأخرج الطّبري([5]) وابن أبي حاتم من طريق قيس بن الرّبيع، عن الأعمش، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس قال: «لمّا نزلت؛ قالوا: يا رسول الله! من قرابتك الذين وجبت علينا مودّتهم؟» الحديث([6])، وإسناده ضعيف، وهو ساقطٌ؛ لمخالفته هـٰذا الحديث الصّحيح([7]). والمعنىٰ إلّا أن تودّوني لقرابتي فتحفظوني، والخطاب لقريش خاصّةً، و﴿ٱلْقُرْبَى﴾ قرابة العصوبة والرّحم، فكأنه قال: «احفظوني للقرابة إن لم تتّبعوني للنّبوة».

وقد جزم بهـٰذا التّفسير جماعةٌ من المفسّرين، واستندوا إلىٰ ما ذكرته عن ابن عبّاس من الطّبراني وابن أبي حاتم، وإسناده واه، فيه ضعيف وشيعي. وذكر الزّمخشري هنا([8]) أحاديث ظاهرٌ وضعها([9]).

وردّه الزّجّاج بما صحّ عن ابن عبّاس من رواية طاوس في حديث الباب، وبما نقله الشّعبي عنه، وهو المعتمد، وجزم([10]) بأن الاستثناء منقطعٌ».

وفي سبب نزولها قولٌ آخر ذكره الواحدي([11]) عن ابن عبّاس قال: لمّا قدم النّبي  المدينة كانت تنوبه نوائب، وليس بيده شيءٌ، فجمع له الأنصار مالاً، فقالوا: يا رسول الله! إنك ابن أختنا، وقد هدانا الله بك، وتنوبك النّوائب وحقوقٌ وليس لك سعةٌ، فجمعنا لك من أموالنا ما تستعين به علينا»، فنزلت. وهـٰذه من رواية الكلبي ونحوه من الضّعفاء.

وأخرج([12]) من طريق مقسم عن ابن عبّاس أيضاً قال: بلغ النّبي  عن الأنصار شيءٌ، فخطب فقال: «ألم تكونوا ضلّالاً فهداكم الله بي؟» الحديث. وفيه: «فجثوا علىٰ الرّكب، وقالوا: أنفسنا وأموالنا لك». فنزلت. وهـٰذا أيضاً ضعيف، ويبطله أن الآية مكّيةٌ. والأقوىٰ في سبب نزولها: عن قتادة قال: قال المشركون: لعلّ محمداً يطلب أجراً علىٰ ما يتعاطاه فنزلت» اهـ([13]).

قلت: ثمّ إن قربىٰ النّبي  ليسوا فقط من ذكرهم الشيعي عبدالحسين، بل هم كل من لهم قرابةٌ بالنبي  من بني هاشم، كما هو ظاهر الكلام، وتخصيص القربىٰ بخمسة أو اثني عشر نفراً؛ تحكّمٌ ليس له معنىٰ ولا وجهٌ.

 

([1])        «صحيح البخاري» (4818).

([2])       ابن عبّاس رضي الله عنه صحابي جليلٌ، وهو بحرٌ في العلوم، دعا له الرّسول  ﷺ ودعاؤه مستجابٌ بأن يعلّمه الله فقه الكتاب والحكمة؛ كما في «صحيح البخاري» (75)، و«صحيح مسلم» (2477). وهو أيضاً من ذوي القربىٰ، فهو ابن عمّ النّبي  ﷺ، ولم تمنعه عصبيةٌ من أن يَرُدَّ على سعيد بن جبير تفسيره بما علّمه الله تعالىٰ.

([3])       «منهاج السّنّة النّبوية» (7/101).

([4])       «صحيح البخاري» (4818).

([5])       صوابها: «الطّبراني»، إذ لم أجد الحديث في «تفسير الطّبري».

([6])       أخرجه ابن أبي حاتم ــ كما في «تفسير ابن كثير» (7/201) ــ: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا رجلٌ سمّاه، وأخرجه الطّبراني في «المعجم الكبير» (1/47)،   (10/351): حدّثنا محمد بن عبدالله الحضرمي، حدّثنا حرب بن الحسن الطّحّان. كلاهما (حربٌ، والرّجل المبهم) قالا:«حدّثنا حسينٌ الأشقر، عن قيس، به. لفظ الطّبراني: «قال:علي وفاطمة وابناهما». لفظ ابن أبي حاتم: «قال: فاطمة وابناهما». دون علي.
قال ابن كثير رحمه الله: «هذا إسناد ضعيف، فيه مبهمٌ لا يعرف، عن شيخ شيعي متخرّق، وهو حسينٌ الأشقر، ولا يقبل خبره في هذا المحلّ. وذكر نزول هذه الآية في المدينة بعيدٌ؛ فإنها مكّيةٌ، ولم يكن إذ ذاك لفاطمة أولادٌ بالكلية، فإنها لم تتزوج بعلي إلا بعد بدر من السّنة الثانية من الهجرة. والحقّ تفسير الآية بما فسّرها به الإمام حبر الأمّة، وترجمان القرآن عبدالله بن عباس، كما رواه عنه البخاري:، ولا تنكر الوصاة بأهل البيت، والأمر بالإحسان إليهم، واحترامهم وإكرامهم، فإنهم من ذرّية طاهرة، من أشرف بيت وجد علىٰ وجه الأرض، فخراً وحسباً ونسباً، ولا سيما إذا كانوا متبعين للسّنّة النّبوية الصّحيحة الواضحة الجلية، كما كان عليه سلفهم، كالعبّاس وبنيه، وعلي وأهل بيته وذرّيته،  ﷺ أجمعين».
قلت: وفيه أيضاً حربٌ الطّحّان، وهو ضعيف علىٰ الصّحيح، وسيأتي كلامهم فيه بعد قليل.
وفيه أيضاً قيس بن الرّبيع الأسدي، وقد قال أبو حاتم: «محلّه الصّدق وليس بقوي، يكتب حديثه ولا يحتجّ به»، وضعّفه ابن معين، وقال أحمد: «كان يتشيع، وكان كيثر الخطأ، وله أحاديث منكرةٌ»، وقال النّسائي: «متروكٌ»، وقال الدّارقطني: «ضعيف».
انظر: «الجرح والتعديل» (7/98)، و«ميزان الاعتدال» (6911).

([7])        أي مخالفته لحديث البخاري.

([8])       «الكشّاف» (4/223).

([9])       ها هي الأحاديث ظاهرة الوضع التي أشار إليها الحافظ وذكرها الزّمخشري:
الحديث الأول: شكوت إلىٰ رسول الله  ﷺ حسد الناس لي. فقال: «أما ترضىٰ أن تكون رابع أربعة: أوّل من يدخل الجنة أنا وأنت والحسن والحسين، وأزواجنا عن أيماننا وشمائلنا، وذريتنا خلف أزواجنا».
أخرجه القطيعي في زوائده علىٰ «فضائل الصحابة» لأحمد (1068)، وفيه محمد بن يونس الكديمي، وهو متروكٌ متّهمٌ بالكذب.
وفيه إسماعيل بن عمرو بن نجيح، أبو إسحاق البجلي الكوفي الأصبهاني، وهو ضعيف، ضعّفه ابن عدي وأبو حاتم والدارقطني. انظر: «الكامل» لابن عدي (1/322)، «ميزان الاعتدال» للذهبي (1/239)، وخالف ابن حبّان الجمهور بذكره في «الثّقات» (8/100)، فلم يوفّق! وقال:«يغرب كثيراً».
وفيه عمر بن موسىٰ بن وجيه الوجيهي، وهو كذّابٌ يضع الحديث، انظر: «الكامل» لابن عدي (1/322)، «الجرح والتعديل» (6/133)، «المتروكين» لابن حبان (2/86).
قال الحافظ ابن حجر في «تخريج أحاديث الكشاف» (ص248): «وسنده واه»، وحكم عليه الألباني بالوضع في «السلسلة الضعيفة» (12/190)
الحديث الثاني: حديث علي: «حرّمت الجنة علىٰ من ظلم أهل بيتي وآذاني في عترتي، ومن اصطنع صنيعةً إلىٰ أحد من ولد عبدالمطلب ولم يجازه عليها؛ فأنا أجازيه عليها غداً إذا لقيني يوم القيامة». حديثٌ موضوع، ذكر إسناده الحافظ الزّيلعي في كتابه «تخريج أحاديث الكشاف للزمخشري» (3/236)، وقال: «رواه الثعلبي: أنا يعقوب بن السري، حدثنا محمد بن عبدالله الحفيد، حدثنا عبدالله بن أحمد بن عامر، أنا أبي، حدثنا علي بن موسىٰ الرضا، ثني أبي موسىٰ بن جعفر، أنا أبي جعفر بن محمد، أنا أبي محمد بن علي، ثني أبي علي بن الحسين، ثني أبي الحسين بن علي، ثني أبي علي بن أبي طالب رضي الله عنه، به.
وفيه عبدالله بن أحمد بن عامر الطّائي، وهو كذّابٌ، ذكره الذهبي في «ميزان الاعتدال»
(2/390)، فقال: «عبدالله بن أحمد بن عامر، عن أبيه، عن علي الرّضا، عن آبائه بتلك النسخة الموضوعة الباطلة، ما تنفكّ عن وضعه أو وضع أبيه».
الحديث الثالث: فعلنا وفعلنا، كأنهم افتخروا، فقال عباسٌ أو ابن عباس رضي الله عنه: لنا الفضل عليكم، فبلغ ذلك رسول الله  ﷺ، فأتاهم في مجالسهم فقال: «يا معشر الأنصار، ألم تكونوا أذلة فأعزكم الله بي»؟ قالوا: بلىٰ يا رسول الله. قال: «ألم تكونوا ضلالاً فهداكم الله بي»؟ قالوا: بلىٰ يا رسول الله. قال: «أفلا تجيبونني»؟ قالوا: ما نقول يا رسول الله؟ قال: «ألا تقولون: ألم يخرجك قومك فآويناك، أو لم يكذبوك فصدقناك، أو لم يخذلوك فنصرناك». قال: فما زال يقول حتىٰ جثوا علىٰ الركب، وقالوا: أموالنا وما في أيدينا لله ولرسوله. فنزلت الآية».
أخرجه الطّبري في «تفسيره» (20/499)، وابن أبي حاتم ــ كما في «تفسير ابن كثير» (7/200) ــ، والطّبراني في «المعجم الأوسط» (3864)، من حديث ابن عبّاس.وفيه يزيد بن أبي زياد، وهو ضعيف».
انظر: «الكاف الشاف في تخريج أحاديث الكشّاف» لابن حجر (ص248).
الحديث الرابع: «من مات علىٰ حبّ آل محمد مات شهيداً..»، ذكره عبدالحسين في المراجعة (10)، حديث (14)، وهو حديثٌ موضوع.

([10])     أي: الزّجّاج؛ كما هو الظّاهر من سياق كلام الحافظ. والله أعلم.

([11])      في «أسباب النزول» (ص595)، معلّقاً دون إسناد، وأخرجه الطّبراني في «المعجم الكبير» (12/26)، و«المعجم الأوسط» (5758). قال الطّبراني: «لم يرو هذا الحديث عن عثمان أبي اليقظان إلّا نصير بن زياد، تفرّد به حسينٌ الأشقر». وقال الهيثمي في «مجمع الزّوائد» (7/103): «فيه عثمان أبو اليقظان وهو ضعيف». قلت: وفيه الرافضي حسينٌ الأشقر، وهو ضعيف جدّاً.

([12])     أي الواحدي أيضاً في المصدر السابق.

([13])     «فتح الباري» (8/564 ــ 565).